لعل أول مَن تحدث عن تأنيث المجتمع هو المفكر الفرنسي روجيه جارودي، في كتابه (في سبيل ارتقاء المرأة)، ثم جاء بعده بسنوات "فرانسيس فوكوياما" الكاتب الأمريكي الياباني الأصل صاحب الكتاب الشهير "نهاية التاريخ". فكتب مقالته "تأنيث العالم"، والاثنان كانا يشيران إلى الدور الاجتماعي والاقتصادي المتعاظم للمرأة، وكيف أصبحت ممثلة في دوائر صناعة القرار وأحيانا على قمة الهرم. قبل هذا.. كان "أراغون" قد قال: "إن المرأة مستقبل الرجل فقط..." والقراءة المغرضة المتزمتة قد تحيل مقولة "أراغون" إلى كونه شاعراً مغرماً بزوجته "ألزا" التي كتب فيها ديوانه الشهير "عيون ألزا" غير أن الموضوعية تقتضي فهمها على أساس أن إعادة الاعتبار إلى عقل ومكانة الأنوثة في المعمار الاجتماعي تصحيح لعقل ومكانة الرجل تعيد التوازن إلى العلاقة التفاعلية المتكافئة بينهما في القدرات، وليس بناءً على الشرط البيولوجي الذي نجم عنه تقسيم العمل وأفقد البشرية طاقة الأنثى وورّط الرجل بالتخبط في التفكير والممارسة نيابة عنها لتدفع المجتمعات ثمنه فصاماً واغتراباً على المستوى العقلي والنفسي والوجداني وتدفع ثمنه اختلالات وعنفاً على مستوى بناء الأسرة والمجتمع والدولة.. ودارت على هذه الأرضية معركة التقدم لجعل الفرد، دون تمييز، رجلاً أو امرأة، قوة إنتاجية وكلما ساد هذا النسق كانت التنمية في أفضل حال. المرأة السعودية قطعت في مسيرة التعليم أشواطاً طويلة خلال نصف قرن منذ بدأت حركة التعليم النسوي وحققت جدارات في كفاءتها العلمية والمهنية في تخصّصات عدة، في القطاعين العام والخاص. وأطاحت جدارتها بمزاعم التصنيف فيما يخص رغبة البعض في تسويرها داخل نطاق علوم بعينها أو أعمال بذاتها.. وبرهنت على تفوقها فيما تم تمكينها منه، وفيما نذرت نفسها له من علم أو مهنة.. سياق مفاده أن التنمية ليست رجلاً وإنما بالضرورة وبالقدر نفسه أنثى. إلا أن أنوثة التنمية، لا تزال في حاجة إلى مقاربة منهجية تتعلق بإشراكها في التخطيط للتنمية وليس التنفيذ أو المتابعة فقط، فأنوثة التنمية ينبغي ألا يتوقف الدور فيها على ما اعتدنا عليه من فرز بين الجنسين، فهي أبعد من مصطلحنا المربك "تأنيث المحال النسائية!!"، وأقرب إلى قرار خادم الحرمين بإشراك المرأة في عضوية مجلس الشورى طالما المرأة والرجل معا ينشدان بناء أسرة سوية ومجتمع سليم، الأمر الذي يعني أن الاستمرار في التخطيط للتنمية نيابة عن المرأة يفقدنا جوهراً نفيساً لم يتم اعتماده مرتكزاً في أدبياتنا للتنمية. فترك المرأة متلقية للخطط التعليمية، الاقتصادية، المالية، التجارية، الصناعية.. إلخ غيّر انخراطها في بلورة سياسات تلك الخطط وأهدافها وآلياتها وكذا استراتيجياتها. أعلم أن وزارة الاقتصاد والتخطيط تستثمر آراء المرأة وتتواصل معها، غير أن عملاً ممنهجاً جديداً لا بد أن يأخذ طريقه في إدارات نسائية في سائر الوزارات: التجارة، العمل، الشؤون الاجتماعية، النقل، المالية، والإسكان.. إلخ على ألاّ يكون دورها مكبلاً بأعمال إدارية أو علاقات عامة، فتلك ممارسات لا تجعل المرأة عضواً خلاقاً في عملية إبداع التنمية ومساراتها. التنمية فيض نبض قوة العلم والعمل، وكل ما هو إلى الأمام فهو تنمية، تصدر عن الرجل، كما تصدر عن المرأة، وأي خلل في هذا السياق يحد من رقي التنمية واندفاعها، وبالتالي فتأنيث التنمية يكسبها رؤية أنثوية تتكامل مع الرؤية الرجولية.. فيمنحها علميتها وتوازنها الموضوعيين حين لا يفكر أحد بالنيابة عن أحد، فطائر التنمية يحلق بجناحين أيضا!