د. عبد اللطيف القرني - الاقتصادية السعودية تعودنا على بيانات كثيرة ومللناها، ذلك أنها تتجاوز العقل والمنطق والمصلحة العامة وتذهب بعيداً إلى عكس قناعات الأمة وما تريده، إلا أن البيان الأخير الذي تم تذييله بتوقيع 63 شخصاً يختلف عن سابقاته إذ تناول قضايا خطيرة تمس أمن الوطن واستقراره، وتدخلاً في شؤون القضاء وأحكامه وهو ما لا يقبله الجميع وترفضه جميع الدول وتعاقب عليه، وقد تناول هذا البيان قضيتين ذواتي صلة بالشأن العام، وهما: القضية الأولى: محاكمة من يسمون بالإصلاحيين في محافظة جدة. القضية الأخرى: أسلوب التعامل الأمني مع أحداث الشغب في القطيف. وانطلاقا من المسؤولية تجاه هذا البيان والتي يتطلبها فقه في الموقف، مستصحبين في ذلك الجوانب الشرعية والقانونية؛ فإن الأمر يستوجب أن يفهم عامة الناس أهداف هذا البيان ومقاصده وتجاوزاته الخطيرة، والتي سيتضح شيئا منها من خلال بعض الوقفات على النحو الآتي: الوقفة الأولى تطرق البيان إلى تعزيز حقوق المواطنة من خلال تشريع المواطنين لإنشاء جمعيات المجتمع المدني في مختلف المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وكأن حقوق المواطنة لا تعزز إلا فقط من قِبل إنشاء جمعيات المجتمع المدني وضرب الوتر دائما على هذه الجمعيات، وكأنها المعالجة الأساسية الوحيدة للإصلاح الشامل مع أنها موجودة في أوساط المجتمع حاليا، إن المغالاة في متطلبات الحياة المدنية تدفع إلى الإيحاء بأن التشبع في هذا الاتجاه هو الأساس، والكل، مع أن ذلك غير واقعي في كل أنحاء العالم، فضلا عن أن هذا المنحى لا يراعي طبيعة المواطنين في هذا البلد، ولا يتفق مع المبادئ الشرعية سواء في واقعيتها أو مآلاتها، ولا يجوز أن تقاس أحوال البلدان على نمط واحد، فالحياة الاجتماعية والثقافية وقبلها مستوى التدين والحفاظ، تختلف بين البلدان العربية، بل وعلى مستوى دول الخليج؛ مما يعني معه أن المغالاة في ترويج فكرة جمعيات المجتمع المدني لتكون أجندة لأنشطة ذات أهداف أخرى لا تمت بأي صلة لهذه الجمعيات؛ ما يعني مزيدا من الصدع في المواطنة التي يبحث عنها هؤلاء. ثم إن استنساخ تجارب الحياة السياسية والمجتمعية من الدول الأخرى دون مراعاة للمكون الثقافي الوطني ودون مراعاة لمعايير الأصول الشرعية والنظامية، وكذلك القابلية الحياتية الشاملة للنظام المجتمعي في هذا البلد وليس لفئة معينة أو أقلية تتحكم في مصير الأكثرية. الوقفة الثانية تحدث البيان عن الأحكام القضائية ووصفها بأنها بالغة القسوة على 16 من الإصلاحيين في جدة، ووصف المحاكمة بأنها افتقرت إلى الكثير من معايير العدالة، وارتكزت على أسباب وحيثيات لا تسند ما صدر بحقهم من أحكام. وقبل مناقشة هذه الفكرة التي تناقض شرعا وقانونا مبدأ الحياد القضائي في المملكة، ولكي لا يفهم من قولي تأييد هذه الأحكام أو رفضها لأن النظر القضائي لا يمكن الإلمام به إلا بعد الاطلاع على حيثيات القضايا والأدلة الثبوتية فيها، غير أن الأمر هنا يتعلق بمبدأ التدخل في الأحكام القضائية والاستقواء بالإعلام عليها، ما يعد مخالفة قانونية فادحة يجرّم عليها مرتكبها في الدول الحديثة التي تدندن حولها شخصيات البيان، ومنها الدول الأوروبية وأمريكا والتي يحظر فيها تناول القضايا والأحكام الابتدائية الصادرة فيها بأي وسيلة إلا من خلال التصريح الرسمي عندما يتطلب الأمر ذلك، أما وصف الأحكام القضائية بهذه الأوصاف المشينة من قبل مجموعة من المواطنين لم تطلع على ملفات القضايا فهذا من قبيل الافتئات على السلطة القضائية، خاصة أن الجهاز القضائي له ثلاث درجات يمكن الطعن في الأحكام الصادرة من قِبل أصحاب الشأن أنفسهم أو ذويهم لمحاكم الاستئناف ثم إلى المحكمة العليا، وهي درجات قضائية نظامية متاحة لعموم الناس؛ حرصا على حقوق الناس واحتراما لحرياتهم الشرعية التي تتفق مع الأصول الشرعية والقانونية، وهي الوسيلة التي تتفق مع معايير العدالة، أما نقد الأحكام الصادرة القضائية في الوسائل الإعلامية المقروءة أو المسموعة أو المرئية أو إصدار البيانات عنها فهو مبدأ يخرم الاستقلال القضائي، كما أن العلاقة بين السلطة التشريعية والسلطة القضائية تكاملية، بحيث لا يطغى جانب على آخر، وللسلطة القضائية دائما مراقبة أعمال السلطة التشريعية وإلغاؤها.. هذا في حال السلطة التشريعية فكيف بفئات من الناس لا يمثلون إلا أنفسهم ولا يحق لهم تناول الأحكام القضائية إلا من خلال درجات التقاضي ممن ينعقد لهم الاختصاص والصفة. الوقفة الثالثة تناول البيان أسلوب السلطة التنفيذية الأمنية في التعامل مع أحداث الشغب في القطيف والتي قام بها بعض المواطنين ممن لهم ولاءات خارجية، وقد وصف البيان هذه الظاهرة بالتظاهر السلمي مع أنه تم استخدام الذخيرة الحية من قبل هؤلاء ضد مركز شرطة وقاموا بإغلاق الطرق وإحراق إطارات السيارات. إن احترام حقوق الحريات الشرعية لا يعني الانفلات الأمني والتعدي على رجل الأمن، خاصة أن مثل هذه التصرفات ليست إرادات داخلية، بل هي أدوات لقوى خارجية تحاول زعزعة المجتمع وشق الصف، ولم تكن يوما حريصة على رأب الصدع أو المطالب المشروعة، بل ظاهر هذه التصرفات هي لتعبئة الرصيد للفكر الطائفي الذي يؤدي إلى الفتنة المناقضة للأصول الشرعية، قال تعالى: ""وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ"" (البقرة: من الآية 191)؛ بل أمر الله سبحانه بالقتال لغرض إقامة الدين ومنع الفتنة، قال تعالى: ""وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ"" (الأنفال: من الآية 39)، ثم إن أحداث الشغب والتي يسميها البيان التظاهر السلمي مخالفة للأوامر النظامية الصادرة من ولي الأمر، قال تعالى: ""أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ"" (النساء: من الآية 59)، وهذا في حد ذاته يعتبر مخالفة شرعية وقانونية يستوجب فاعلها العقاب الشرعي فكيف إذا كانت هناك مواجهات مسلحة وإخلال بالأمن بدافع العبث، وفي صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ""إنه ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان"". الوقفة الرابعة تناول البيان مطالب عدة، وهي في مجموعها تناقض احترام السلطة القضائية التي عالجت طريقة الطعن في الأحكام القضائية عن طريق درجات التقاضي، كما ناقضت هذه المطالب احترام سيادة الدولة في أمنها ومكتسباتها، والنظر إلى التدخلات الخارجية على أنها مطالب سلمية مشروعة، ويريد هؤلاء أن تستفيق بلاد الحرمين على نزاعات طائفية مسلحة مثل الدول المجاورة التي تساهلت في التعامل مع هذه التصرفات حتى أصبح كثير من هذه الدول يعيش كل طائفة فيها دولة وحدها لها زعيم ولها أجندة خاصة لانتشار السلاح واستخدامه بين أفراد الشعب الواحد عند قيام النزعة الطائفية، أو التشنجات السياسية. إن إهمال هذه الأساليب العبثية والتساهل فيها يخلق على المدى الطويل قوى داخلية تناقض دعائم الدولة وتؤثر في حياة الأكثرية وتهدد استقرارها، وهذا لا يعني عدم احترام الحقوق والمواطنة وتكافؤ الفرص في المستوى المعيشي، ولكن أين هذا من ذاك؟! الوقفة الخامسة إن كثيرا من هذه البيانات والتي تتضمن أسماء لتوجهات فكرية متناقضة أصبحت وسائل لمقاصد تخالف غالبا الأسس الشرعية والقانونية، وأصبحت وسيلة لكل مجموعة تريد أن تركب موجة سياسية أو اجتماعية، وتريد أن تسجل موقفا اجتماعيا بطابع الإثارة بعيدا عن الأسلوب الأمثل في الإصلاح ووحدة الصف ومبدأ الشورى واجتماع الكلمة، ومع أن وسائل الإصلاح والمطالبة بها متاحة في وسائل شتى ومنها فتح أبواب ولاة الأمر وعقولهم لكل صوت ينشد الإصلاح، وكثيرا ما نجد خادم الحرمين الشريفين وولي عهده يستقبلان المواطنين سواء العلماء أو الطلاب أو النساء ويسمعون منهم، وتمت معالجة كثير من القضايا بمثل هذه الوسائل المشروعة. وموقف المسلم الشرعي من هذه الأمور أن تكون المطالبة حسب القدرة والإمكان وليس في أن يسلك الطرق المخالفة في إشهار البيانات لتسجيل مواقف ليست من مقدراته الشرعية والاجتماعية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وما يتعلق بذلك من أصناف السياسات والعقوبات، والمعاملات في إصلاح الأموال وصرفها فإن طريق السلف أكمل في كل شيء، ولكن يفعل المسلم من ذلك ما يقدر عليه كما قال الله تعالى: ""فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ"" (التغابن: من الآية 16)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم: ""إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"" ينظر كلامه في الاستقامة 331. وفي الختام، أدعو أبناء هذا الوطن إلى التبصر في تقدير الأمور وإقامة فقه الموقف وفق المصالح العليا، وفهم الواقع بكل أنواعه، والنظرة الشرعية في معرفة ما يناسب الوطن والمواطنين في مرحلتهم وما يتحملونه من التكاليف الشرعية وما يكون عامل إصلاح لهم، والابتعاد عن مواطن الفتن، ورحم الله الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز عندما حاوره ابنه عبد الملك قائلا له: ما لك لا تنفذ الأمور؟ فو الله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق، فقال له عمر بن عبد العزيز: ""لا تعجل يا بني فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة""؛ فالخليفة الراشد هو رجل السلطة الأعلى وصاحب القرار الأول ومع ذلك ترك الأساليب التي يخشى أن تحدث للناس فتنة، فكيف بفئات من الناس تنظر بعينها القاصرة وترى برأيها المجرد في اجتهادات فردية لا تراعي النظرة الشمولية الواقعية للمواطنين ولا تتناسق مع مقررات الشريعة الإسلامية ولا الأحكام القانونية والأعراف العامة، وهذا ما يجعلها لا تمثل الشريحة الواسعة من المواطنين.