المقاطعة موقف مضاد يشكل ضغوطاً كبيرة بقصد تغيير أمر ما وذلك بالتوقف عن تعاطيه أو ممارسته أو الانخراط فيه بغرض إضعافه: هي صرخة احتجاج صامتة ترفض قبول وضع ما وتسجل باعراضها عنه اعتراضاً عليه. في أول انتخابات تجري في الساحة الثقافية، وهي انتخابات اُقرّت بعد مطالبات ملحة، جاءت نسبة المشاركة فيها من الأدباء المثقفين ضعيفة جداً، فهم لم يسجلوا في الجمعيات العمومية ولم يرشحوا أنفسهم أو بعضهم، ولم يدلوا بأصواتهم لتعزيز مكانتهم في أنديتهم. لكن مقاطعة الأدباء المثقفين لم تكن جماعية بمعنى الاتفاق فيما بينهم على التقليل من شأن الانتخابات وإضعافها، بل كانت قراراتهم فردية غذتها أسباب فردية وأفرزتها قناعات فردية. لذلك بقيت الحركة غير محددة ولا واضحة المعالم، وكثرت التأويلات وإن لم تتأكد واحدة منها كسبب رئيس يجتمع عليه معظم الأدباء المثقفين. كما أن الصمت الذي يفترض أنه مقاومة في حد ذاته كان سمة المثقفين، فلم يصرح أحد منهم عن أسباب العزوف عن المشاركة في العملية الانتخابية، ولا أعلن عن المطالب المنتظر تحققها بفعل الضغط الذي سيولده هذا العزوف، ولا بيّن طبيعة هذا الاعتراض ولا حدد له هدفاً واحداً. في المقاطعات الاقتصادية يتحزب المستهلكون ويعلنون عن مقاطعتهم لشخص ما أو منتج ما، إما بغرض الاعتراض على ارتفاع سعره، وإما بغرض الاعتراض على سياسات الدولة المنتجة له، فيمتنعون عن شراء الحليب مثلاً لارتفاع سعره المفاجئ، كما يمتنعون عن شراء سلع أخرى على أمل التأثير في اقتصاديات بلد معادٍ مثلاً، فتكون المقاطعة سلاحاً باتراً بعيداً عن وغى الساحة الحربية التقليدية. ولأن العزوف عن انتخابات الأندية الأدبية لم يكن تحزباً أو موقفاً مشتركاً، فقد تشتت قوة كتلة الأدباء المثقفين وذهبت ريحها، وتقدم منهم إلى مجالس الجمعية العمومية مجموعات قليلة هنا وهناك بينما انسحبت المجموعات الأكبر التي وقفت تراقب الوضع من بعيد وتشهد على سقوط من تقدم من داخل دوائرها، وتعد العدة للترصد للعملية الانتخابية ولنقد الأندية الأدبية كمؤسسة تنويرية، ولعدم الاعتراف بشرعية المجالس المنتخبة. العازفون عن انتخابات الأندية الأدبية ظلت دوافعهم مجهولة تماماً، لذا فإن نضالهم الأبكم لم ولن يؤتي أكله. حين وقف الدكتور عبد الله الغذامي على الملأ بكل شجاعة وأعلن مقاطعته للأندية الأدبية بكل وضوح، أتبع ذلك الإعلان بالسبب في المقاطعة ألا وهو الاعتراض على عملية التعيين، ثم إنه حدد مطالبه المرجوة من تلك المقاطعة ألا وهي أن يتولى إدارة الأندية الأدبية أشخاص منتخبون، واختتم بتوقيت المقاطعة وربطها زمنياً بتحقق المطلب. لكن العازفين عن الانتخابات، ومفارقة عجيبة أن يكون الغذامي من بينهم، تراجعوا وتقوقعوا ولاذوا بزوايا الصمت الآمن، ولم يجودوا علينا بتفسير واحد لتخليهم عن المسيرة الثقافية لبلدهم في لحظة تاريخية حرجة وهي تدخل منعطفاً تكوينياً جديداً. لم يشكل العزوف عن انتخابات الأندية الأدبية أي ضغط يذكر على مسيرتها، فاكتملت فصولها على مدى شهور طويلة والعازفون يراقبون من أبراجهم ويتفرجون على ما يجري وكأن الأمر لا يعنيهم. ربما كانوا شامتين وربما كانوا ساخطين، ربما كانوا محقين وربما كانوا غير آبهين البتة... لا أحد يعرف! هذا الغياب امتلأ بغيرهم وطارت الطيور بأرزاقها وانتهت الانتخابات دون أن يحدث عزوفهم أي أثر يذكر، فعلى ماذا راهنوا يا ترى بانسحابهم هذا وركونهم إلى سهولة « اللافعل»؟ الآن وقد تم تشكيل اللجان المنتخبة واستلم من استلم إدارة دفة الحركة الثقافية المحلية، لا بد من التساؤل حول موقف أولئك العازفين. في جوالي رسالة من مجلس إدارة نادي منتخب يوجه الدعوة ليس فقط إلى أعضاء الجمعية العمومية، بل إلى أدباء ومثقفي المنطقة للمشاركة في أنشطة النادي، وهي رسالة أتوقع أن يبدأ كل ناد في إرسالها لأدباء ومثقفي منطقته لكي يبدأ بهم فعالياته، إذ إن المجالس لن تتمكن من تفعيل دورها دون أدباء ومثقفين. ولسوف تصل تلك الرسائل إلى أولئك العازفين تحثهم على الحضور والمشاركة، فهل سيحضرون، وهل سيشاركون؟ لا أحد يعرف تماماً لماذا كان العزوف أصلاً؟ هل يكون السبب هو ذلك الاعتراض الشائع على اللائحة التي سمحت بدخول أسماء وأشخاص إلى المساحات الخاصة بالأدباء دون استحقاق مسبق؟ إن كان ذلك هو السبب الرئيس (أي عدم الرضا عن المزاحمة في الحصول على العضويات وفي حشد الجموع لضمان الفوز بالمناصب الإدراية)، فإن الموقف يتصعّد لا محالة بتكتل أولئك المزاحمين الآن في مجالس إدارة الأندية الأدبية. فإن كان الاعتراض غير المعلن هو: أن المزاحمين ليسوا مؤهلين ولا أكفاء لإدارة المجالس، فإن أداءهم في السنوات الأربع القادمة هو الإثبات الداحض على عدم كفائتهم. في حال فشلَ القادمون أصحاب الدماء الجديدة، فإن الدليل سيتوفر لدى العازفين أن المستجدين لا ينتمون لهذا المكان ولا حق لهم فيه، أما في حال نجاحهم وتمكنهم من السير قدماً بالأندية وإداراتها فعلى العازفين تسليم الراية والاعتراف بأن حساباتهم كانت خاطئة. لكن المسألة ليست رهينة الحظ والانتظار، فالعازفون يدركون تماماً أنهم هم وقود الحركة الثقافية وأنها بحاجة ماسة إلى دفعهم لها حتى وهم خارج نطاقها الإداري. ماذا لو استلموا تلك الرسالة التي تدعوهم للمشاركة في برامج الأندية التي يترأسها من يشككون في شرعية توليه تلك الرئاسة؟ هل سيلبون الدعوة ويساهمون في إنجاح التجربة الانتخابية حتى في ظل عزوفهم السابق؟ إن انخراط الأدباء والمثقفين الذين عزفوا عن العملية الانتخابية اعتراضاً على بنود اللائحة وعلى دخول الغرباء إلى ساحاتهم الخاصة هو في شكله ومضمونه إنجاح للتجربة الانتخابية. عندما صرح الغذامي بمقاطعته للأندية حتى يتم تفعيل الانتخابات فقد كان عند كلمته، وبقي بعيداً متمنعاً طوال السنوات الماضية. وبغض النظر عن تأثير مقاطعة الغذامي من عدمها في العمل بنظام الانتخاب في الأندية، إلا أنه كان صاحب موقف وكلمة لا تتزحزح، ولهذا استحق كل الاحترام. أما من عزف عن العملية الانتخابية صامتاً دون أن يبدي أسباباً ولا يضع مطالباً ولا يحدد شروطاً، فهو قد سجل اعتراضاً مموهاً، بل هو اعتراض ممسوخ، يضمن له التذبذب بين موقف المنسحب المعارض، وبين موقف المشجع الداعم. أيها العازفون عن الانتخابات، يا من كتمتم أصواتكم وكممتم أفواهكم، حين تصلكم تلك الدعوة إلى أمسيات وندوات وملتقيات، فهل ستهرعون لإثرائها أم تراكم ستقاطعون؟