نجيب الزامل - الاقتصادية السعودية * "بما أن كل قرينِ بقرينه يقتدي، فلِمَ لا تقتدي كل أمّةٍ بقرينتها؟" سنغافورة تعني بالسنسكريتية "مدينة الأسد"، طبعاً ليس في كل سنغافورة أثرٌ لأسد.. ولم يعش أسد بها منذ ظهرت الجزيرة من باطن البحر.. القصة تقول: إن أميراً من المنطقة التي تسمى "جاوة" حالياً كان يدور البحار للتوسع ورأى الجزيرة ولمح حيواناً، ولعله من الجواميس التي أحضرها الصينيون في زمن أقدم ثم توحَّشت، وقال لمَن معه: انظروا.. أسد! طبعاً، لم يجرؤ أحدٌ أن يقول للأمير: يا طويل العمر أنت غلطان وإن ما رأيته لم يكن أسداً. الذي حصل هو ما يحصل بكل زمان من جوقات المقرّبين والمنافقين، بالغوا بالتأكيد وتنادوا بها باسم "جزيرة الأسد". السنغافوريون الحاليون أخذوا الاسمَ "الأسد" فخراً ونصبوا له التماثيل في كل مكان وصار شعار الدولة لما أدخلوا عليه كطبع الشعائر الصينية جسم سمكة، فصار لا سمكة ولا أسد، ولكن بقيت المدينة تحمل اسمها: مدينة الأسد! وأرى من واجبي أن أرفع تحيتي الدائمة لأساتذتي الحضارمة، فأنتم تلاحظون أن الأميرَ الجاوي أطلق على الجزيرة مدينة الأسد بالسنسكريتية؛ مما يعني أن جزيرة جاوة كانت من ممالك السنسكريت والهندوس بتأثير الهند، حتى جاء التجار الحضارمة وغيّروا أكبر أرخبيل في محيطات الدنيا في معجزةٍ ديموغرافيةٍ ودينيةٍ نادرة في تاريخ الأنثربولوجيا. كنا نتكلم عن الأديان وكيف أن الزعيم "لي كوان يو" باني الأمة السنغافورية (حرفياً) حرّم التنابز بالأديان، وجعلها دولة علمانية مؤسساتية، ولكن هناك أيضاً مسألة الأعراق، فليس السنغافوريون كلهم من أرومةٍ واحدة؛ هناك الصينيون، وهناك الأهالي الأصليون المالاويون، والهنود التاميل، والمسلمون خليط من العرب والهنود والمالاويين، والصينيون الذين أسلموا بزواجاتٍ من المسلمين، ولكل فئة طقوسها وعاداتها ولغتها ودياناتها ومعابدها، ويندمجون سواسية بكل شيء تحت المواطنة السنغافورية، فلا تتمَلْمَلُ فئةٌ من فئة أخرى، ولا تفكر في الكلمة المفقودة بالقاموس السنغافوري (الثورة)، فظاهرة الأقليات والأكثرية لا معنى لها هناك تقريباً. صحيح أن للصينيين غالبية الظهور في الأعمال والإدارة، ولكن لأنهم يمثلون أكثر من 75 في المائة من تعداد السكان.. وترى الوزير التاميلي، والبرلماني المالاوي، والتاجر من أصول عربية، وفئة أخرى جميلة اخترعت لنفسها طقوساً وعادات وحتى طبخات جديدة هي الفئة التي نتجت من تزاوج المالاويين مع الأوروبيين ويسمَّوْن "أوراسيون". هذا الخليط بقوة العدل والواقع والقانون أخذوا نصيبهم بالتساوي، بشرط أن يوازنوا بالكفة الأخرى الواجبات.. لا زعل! إن ربط المصالح التجارية والمالية مع القوى الإقليمية في المنطقة جعل سنغافورة من أهدأ وآمن دول العالم بعد خروج اليابان منهزمة منها أمام الحلفاء بالحرب الكونية الأخيرة. نظافة المدينة بقوة القانون، والهواء بقوة القانون، والعلم العالي بقوة المصلحة الواقعية، وتطبيق العدل على الجميع لواقعية الارتباط بالأرض، جعل السنغافوريين يرون بلدهم انتماءهم الأعلى. إن كلمة "الفساد" كالثورة كلمة من الصعب أن تجدها في اللغة اليومية بسنغافورة؛ فهي من أنظف دول العالم، ليس في شوارعها وهوائها، بل بممارساتها الرسمية. بقي شيء.. لما تأكد "لي كوان يو" أن مدينته الواقعية نضجت وعقلت اللعبة السياسية الواقعية، تنحى عن السلطة ودعا لأول انتخابات ديمقراطية. سنغافورة الآن جنة ديمقراطية. قلت لصديقي السائق كومار: "أريد أن أرى قصرَ الرئيس "لي كوان يو"؟" لم يفهم كلمة "قصر"، فقلت له: "(بيت) السيد لي كوان يو؟" وعند مجمع سكني، عام أشار بيده إلى المجمع وقال: هنا توجد "شقة" الرئيس! وعرفتُ شيئا: لا قصر للرئيس المؤسس يعني لا ثورة في سنغافورة!