فراج إسماعيل نقلا عن "الجمهورية" المصرية لماذا خرج أردوغان عند بعض الإسلاميين المصريين من فسطاط الإيمان إلى فسطاط الكفر بحديثه عن العلمانية التي يطبقها حزبه في حكم تركيا؟ ولماذا لم يأخذ الليبراليون في المقابل هذا الحديث فرصة لإنهاء حالة الاستقطاب العنيفة التي تشهدها الساحة بين التيارين منذ الاستفتاء علي التعديلات الدستورية في مارس الماضي؟! اتهمه الإخوان بالتدخل في الشئون الداخلية لمصر، مع أنه لم يتدخل بل شرح العلاقة بين الدين والدولة، في محاولة منه للمساعدة في خروج النخبة من الأزمة التي قد تطيح بأحلام الديمقراطية والحريات وتدمر الاقتصاد. هذه الأزمة مسئولة في الواقع عن الخسائر الاقتصادية المتتالية للبورصة والسياحة والاستثمار الأجنبي لأنها تبقي علي التوتر والضبابية. ففي ظل الاستقطاب بين المتشددين علي الجانبين، ظل ميدان التحرير علي صفيح ساخن من المظاهرات والاعتصامات، وتوقفت الدولة تقريبا عن استشراف المستقبل والإسراع في انهاء الفترة الانتقالية. قدم رجب طيب أردوغان خلاصة تجربة حزبه مع علمانية متطرفة للغاية كانت تمنع أن تصدح المساجد بالأذان وتتعامل بعنف مع المظاهر الدينية الاسلامية. تجربة قال عنها إنها توصلت بعد عمل شاق إلى تعريف للعلمانية يمنح المجتمع حقوقه الدينية، ويجعل الدولة علي مسافة واحدة من جميع الأديان وحتي الذين لا دين لهم. ولا أجد في تعريف أردوغان ما يخالف الاسلام ويدخله فسطاط الكفر. إنه شخص متدين للغاية لا تفوته فروض الصلاة في أوقاتها وعندما قابلته في تسعينيات القرن الماضي أثناء توليه رئاسة بلدية اسطنبول كان أول ما لفت نظري وجود سجادة الصلاة الصغيرة في مكتبه. لقد أخذني إليه في ذلك الوقت الإسلامي التركي الراحل صالح أوزجان لأتعرف علي رجل توسم فيه مستقبلا باهرا يعيد الإسلام قويا إلي تركيا. كان أردوغان حينها ينتمي لحزب الفضيلة بقيادة أستاذه نجم الدين أربكان، لكنه أدار اسطنبول بفكر مختلف يقوم علي التدرج والتعامل مع الواقع بروح متسامحة لم تفرق بين العاملات في الدعارة وبين المحجبات. لم يقل إن الأوليات في فسطاط الكفر ومن أهل النار وينبغي التخلص منهن، وأن الثانيات في فسطاط الإيمان، بل وفر وظائف شريفة للعاملات في الدعارة كتنظيف الشوارع فوجد منهن إقبالا وتخليا عن سيرتهن الأولى، وبذلك تطهرت اسطنبول من الرقيق الأبيض الذي كان يشوه حضارتها. لم يحتاج إلى تطبيق الحدود وإلى شرطة دينية لزجر المنكر. ولم يضع وقته في مطاردة محلات الخمور والكاسيات العاريات وتحجيب الكاشفات، ولم يسر علي نهج أستاذه أربكان في استفزاز العلمانيين وإثارة مخاوفهم. إنه الفكر الذي تعلمه من أخطاء الممارسة العملية للإسلاميين طوال التاريخ العلماني لتركيا. في كلمات قليلة قدم لنا حصيلة ما تعلمه ونجح به في القضاء علي التناقض بين حزبه الذي يغلب عليه التيار الاسلامي المنبثق عن حزب الفضيلة المحظور عام 1998 بالإضافة إلي التيار القومي المنشق عن الحركة القومية والعلماني المنشق عن مجموعة من الأحزاب العلمانية. الإسلاميون للأسف لم يلتقطوا التجربة التي قدمها لهم أردوغان مجانا وبشرح مبسط خلال حواره مع الإعلامية مني الشاذلي الذي بثته قناة دريم، وإنما هرعوا يهاجمون الرجل الذي يحظى بشعبية هائلة بينهم. وكانوا قد استقبلوه في القاهرة بوصفه خليفة للمسلمين! ولو نظروا في الأمر لوجدوا أنه أراد انقاذ مستقبل الديمقراطية والحرية وتداول السلطة في دول الربيع العربي. ففي ظل الاستقطابات الحالية قد تقف العملية الديمقراطية برمتها لأن نذر البديل ستبدو أخطر كثيرا من الاستبداد والديكتاتورية. أليس ما قاله أردوغان ترجمة عصرية للقاعدة القرآنية التي تشكل دستورا للعلاقة بين الدولة والدين "لكم دينكم ولي دين"؟! هذا الطرح لمفهوم الدولة المدنية ولا نقول "العلمانية" نظرا لأنه مصطلح سييء السمعة في مصر والعالم العربي. يقدم فرصة ذهبية للإسلاميين والليبراليين للنجاة من النفق فهل يغتنمونها؟