رسالة المناضل الأفريقي نلسون مانديلا للثوار في تونس ومصر، ليست من الرسائل التي يمكن تناسيها بسهولة لا سيما ونحن نرى أن الأحداث في مصر تسير بشكل غريب نحو فوضى مطالب مركزها ميدان التحرير تستهدف شل الحركة وقتل ما تبقى من اقتصاد البلاد. المتظاهرون في ميادين مصر ربما يكون لهم بعض العذر، وذلك بسبب غياب القيادة الحقيقية والرمزية التي تلتف حولها الجموع، وتنتشل البلاد من الفوضى والضياع ، يقول مانديلا: (أنا أتفهم الأسى الذي يعتصر قلوبكم وأعرف أن مرارات الظلم ماثلة، إلا أنني أرى أن استهداف هذا القطاع الواسع من مجتمعكم قد يسبب للثورة متاعب خطيرة، فمؤيدو النظام السابق كانوا يسيطرون على المال العام وعلى مفاصل الأمن والدولة وعلاقات البلد مع الخارج، فاستهدافهم قد يدفعهم إلى أن يكون إجهاض الثورة أهم هدف لهم في هذه المرحلة التي تتميز عادة بالهشاشة الأمنية وغياب التوازن. أنتم في غنى عن ذلك، أحبتي. إن أنصار النظام السابق ممسكون بمعظم المؤسسات الاقتصادية التي قد يشكل استهدافها أو غيابها أو تحييدها كارثة اقتصادية أو عدم توازن أنتم في غنى عنه الآن. عليكم أن تتذكروا أن أتباع النظام السابق في النهاية مواطنون ينتمون لهذا البلد، فاحتواؤهم ومسامحتهم أكبر هدية للبلاد في هذه المرحلة، ثم إنه لا يمكن جمعهم ورميهم في البحر أو تحييدهم نهائياً، ثم إن لهم الحق في التعبير عن أنفسهم، وهو حق ينبغي أن يكون احترامه من أبجديات ما بعد الثورة..) إن إصرار الثوار والمعتصمين على الزج بكل من له علاقة بالنظام السابق في منصة المحاكمة بمثابة انتحار سياسي واجتماعي لمكونات نظام أمسك على مدى ثلاثين عاما بمقومات البلد! إن المرحلة تتطلب التعالي على الذات وتجاوز مرحلة الانتقام إلى مرحلة البناء والعفو، لقد جربت أنظمة في زمبابوي والعراق الانتقام فلم تجن إلا الدمار والخراب والانهيار لها ولمجتمعاتها، بينما جربت جنوب أفريقيا المسامحة والتعالي على الانتقام فكانت أعظم دولة أفريقية مؤثرة سياسيا واقتصاديا وثقافيا! إن النخب السياسية الفاعلة وحدها القادرة على تقدير حجم الضرر بمنطقية واستقلالية بعيدة عن مغازلة الجماهير بشعارات، يمكن أن تجر مصر إلى حرب وفوضى طاحنة، الحديث اليوم في مصر عن الفوضى مستبعد لكن المراقب للأحداث يرى أن كل شيء يسير بذلك الاتجاه! لايزال الكثيرون يطرحون سؤالا بسيطا؛ وهو ما الأهداف التي قامت من أجلها الثورة وماذا تحقق منها؟ الإجابة سوف تكون في غاية الصعوبة على المواطن المصري لأنه بدأ بمطالب ولم ينته إلى هذه اللحظة ولا يعرف متى تنتهي مطالبه، لغة التخوين والعمالة بدأت تتداول بشكل كبير بين القوى السياسية؟! تحالف الإخوان والعسكر أثار حفيظة القوى الأخرى التي تسعى لأخذ نصيبها من الوضع السياسي في الدولة. الحديث عن الثورات حقل ملغم اليوم بسبب الهدير الإعلامي الجارف، فإن الكثير من المحللين وأصحاب الرؤى المعروفة والسياسيين حاولوا الابتعاد عن استقراء معطيات الواقع حتى لا يصطدموا بتيار الثورة لأن ما يحدث الآن هو سرقة للثورة، والحقيقة أقول: إن مناصرة الثورة الحقيقية تكون بتصحيح مسارها وتحقيق أهدافها وليس السكوت عن تجاوزاتها وأخطائها، إن البعيد عن الواقع اليومي للثورة يشاهد مدى غلبة روح الانتقام والهدم على روح التسامح والبناء. عندما تنقاشت أنا وأحد الزملاء المصريين المتحمسين للثورة حول رسالة مانديلا قال: إن مصر ليست جنوب أفريقيا! بمعنى أن هناك تجربة مصرية يريد المصريون أن يحدثوها بأنفسهم بعيداً عن تجارب العالم وتراكماته المعرفية. سؤال بسيط؛ هل بالفعل يستطيع المصريون أن يرموا نصف مصر أو ربعها في البحر لأنها تعاملت مع نظام مبارك سابقا؟ وما مصير الآلاف الذين تم تسريحهم من الموظفين الصغار لأنهم نفذوا أوامر رؤسائهم؟ ومن أين يعيشون؟ وهل سيسكتون على ما يعتبرونه ظلما وقع عليهم؟! الأنظار كلها تتجه الى تقييم الثورة المصرية التي يرى الكثير في نجاحها نجاحا للثورات العربية الأخرى وفي فشلها فشلا للجميع. بالفعل إن الصفح والمسامحة والبناء أصعب بكثير من الحقد والانتقام والهدم، لكن مصر ولادة ولن تعقم أن تجد رجلا يخرجها من أزمتها المتلاطمة وتتعالى إلى مستوى الدولة الحقيقية المؤثرة التي بإمكانها إدارة شعبها، وليس بهذا الشكل الذي لا يعلم أحد من يدير هذه الحشود التي تجتمع كل جمعة لتطرح مطالب جديدة بشكل غير منطقي. إن الشخص الذي ينظر إلى الدائرة من الأعلى يختلف عمن ينظر إليها من الداخل لأن ثمة أبعادا لا يمكن رؤيتها إلا من مسافة كافية. يقول مانديلا: (التسامح الحق لا يستلزم نسيان الماضي بالكامل).