لنتأمل بادىء الأمر بقوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله)، فبين الله تعالى أن عباده المصطفين ليسوا على مستوى واحد، فمنهم الذي يسرف على نفسه، ومنهم الذي يقوم بالواجبات ولا يعدوها إلى غيرها مع سلامة من الموبقات، ومنهم الذي يقوم بالواجبات ثم يلحقها بفضائل الأعمال ونوافلها ويزداد منها كلما وجد لذلك سبيلا، غير أن الشخص الواحد من هؤلاء المصطفين ليس سالماً من أن يتبعض، فيكون في مجال من الظالمين أنفسهم، وفي سبيل من السابقين للخيرات، وفي حالات يقتصد في العمل، ولذلك شرع الله التوبة والاستغفار والإنابة لأجل ما يلتبس المؤمن من عوارض أو ضعف أو خطأ أو خطل يقع به، وعليه فلا سلامة لأحد من الأخطاء، ولا عصمة لأحد من الذنوب، ولا كمال في الأمر والنهي، وخاصة أن الله تعالى أمرنا بالمقاربة في الأفعال ولم يأمرنا بمطابقة الأمر والنهي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سددوا وقاربوا وأبشروا) رواه مسلم. وقال: (استقيموا ولن تحصوا) رواه مالك. وقال: (لولم تذنبوا لأتى الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم). وقال: (كل بني آدم خطاء وغير الخطائين التوابون) رواه مسلم. وعليه فلا يوجد أحد "ملتزم" بكل التعاليم، سالم من كل المؤاخذات، فيكون المؤمن مراوحا بين الشرة والفترة، ينشط حيناً ويضعف أحيانا، يعترف بتقصيره إن بدا منه أمر، فيكون هذا الخطأ صلة بينه وبين خالقه سبحانه وتعالى. إن تشطير المجتمع إلى: ملتزم وغير ملتزم بناء على مقياس الظواهر لا حقائق الأفعال جزء من الأخطاء المعاصرة، فحقيقة التدين أكبر من حصرها في بعض الظواهر، إذ الأعمال منها ما هو لازم ومنها ما هو متعد، منها ما هو متعلق بالقلب ومنها ما هو متعلق بالجوارح، وقد يقصر الإنسان ببعض ما يظهر، ولكنه في قلبه نقاء وصفاء وحرص على الفرائض التي هي شعار الإيمان وعلامة الإسلام، وقد يأتي من هو في ظاهره مستقيم على السنة، ولكن سلوكه وأخلاقه وأفعاله الخفية لا تعكس ذلك المظهر المستقيم، وقد يأتي شخص لا يظهر منه سلوك التدين، ولكنه في حقيقته مخبت لله، محب لله ولرسوله، محافظ على الفرائض، متخلق بأخلاق الإسلام العظيمة، سالم من الشحناء والبغضاء، ومع ذلك تتعجب حين يصف المجتمع الأول بأنه "ملتزم" بينما الثاني بأنه "غير ملتزم" مع معرفة حال الشخصين، مما يدل على أن هناك تكريساً للتدين المفرغ من الحقيقة التي تدفع الإنسان إلى كمال الأخلاق، وحسن التعامل، والسلامة من البغي والعدوان على عباد الله. قال لي مرة أحد الشباب وكنت أتحدث معهم حول هذه المعاني، وأركز على قضية التدين النسبي، دون تصنيف الناس في باب التدين على ظواهر أفعالهم فقط، وأن بعض هذه الظواهر التي محل خلاف بين العلماء وليست محل اتفاق حتى نجعلها من علامات الإيمان ومخالفها داخل في باب الفسق، قال: وماذا يبقى إذن من التدين إن نحن قلنا بهذا ؟ قلت له: ومن قال لك إن هذا هو التدين الذي يريده الله ورسوله؟ إن التدين هو عبادة القلب التي لا يطلع عليها إلا الله، إنه إخبات في حالة صفاء وخلوة مع الخالق، إنه ركعتان في جوف الليل البهيم، إنه سلامة الصدر من الغل والغش، إنه محبة الخير للناس والعطف عليهم، إنه قراءة القرآن والعناية به، إنه السلامة من التخوض في مال الله بغير حق، إنه حسن الخلق وحسن التعامل مع الخلق، وكف الأذى ورد السلام، إنه بر الوالدين والإحسان ورعاية الأيتام والضعفاء، إنه المحافظة على الشعائر والأركان، وليس التدين محصورا في مظهر يركن إليه الإنسان فينسى كثيراً من هذه المعاني العظيمة، إن التدين الحقيقي هو ترك الفواحش وفعل الواجبات، فإن فعل فاحشة أو وقع بذنب كان التدين الحقيقي صحة التوبة والإنابة: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون)، وعلى هذا فكل فرد في المجتمع قد أخذ بشيء من هذه المعاني، فإن قصر في ظاهره فانظر إلى جوانب الكمال فيه، ستجد أن كل شخص مهما بدا لك منه تقصير في الظاهر يحمل في حياته صفحات مضيئة من البذل والعطاء والخير، وكم رأينا أناساً لا تظهر عليهم علامات السنة الظاهرة، ولكن فيهم صفات لا يطيقها كثير من المتدينين في الظاهر، بل تجده لا يبرح روضة المسجد، يدخل قبل المتدينين في الظاهر إلى المسجد، ويخرج بعدهم، ينام ولم يحمل في نفسه على أحد، ولم يتخوض في عرض مسلم تبديعا ولا تفسيقا ولا تكفيرا، ينفق من غير شح نفس، ويعين المحتاج ويسعى للمضطر. إن حصر مفهوم " التدين " في بعض المسائل والظواهر يؤدي إلى أن يشعر بنفسه الانحراف ومن ثم الخروج عن إطار الدين وتعاليمه بمجرد أن يترك نمطية الأفعال التي جعلها المجتمع علامة على الالتزام، ولربما أدى به الأمر إلى حمل أفكار إلحادية أو منحرفة، وفي مقابل ذلك فإن التشديد على بعض المسائل باعتبارها شعار التدين يجعل بعض المتشددين ينقم على المجتمع، ويسيء به الظن، ويشعر بنوع من الانعزال عنه شعورياً، حتى ينفصل الشاب عن محيطه وأسرته بأقل تقصير أو خطأ، حتى وجدنا شباباً قد فاصلوا محيطهم الاجتماعي واعتزلوهم بسبب ممارسات يرى أنها منكرة، حتى لو كانت محل اجتهاد، أو هي مباحة حرمها البعض، فبدلاً من أن يكون التدين عامل إلفة ووحدة واجتماع، ومحبة للآخرين، أصبح علامة مفارقة وسوء خلق ووحشة بين الناس. ومن ينظر في التصرفات النبوية يجد إشفاقه عليه الصلاة والسلام على بعض العصاة، وإثبات محبتهم لله ولرسوله مع اقترافهم لبعض الموبقات الخطيرة كشرب الخمر، فحين لعن أحد الصحابة شخصا شاربا للخمر قال له عليه الصلاة والسلام (لا تلعنه، فإني علمت أنه يحب الله ورسوله) أخرجه البخاري. فأثبت له المحبة مع وقوعه في الموبقة. وأي شيء أعظم من محبة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام. إنه لا ينبغي أن يتحول التدين إلى محاكم تفتيش على ضمائر الناس، ولا تخونهم وتتبع عثراتهم، أو البطش بهم والتنكيل بأقل خطأ، حينئذ سوف يتحول التدين الذي هو تواضع لله، وإزراء على النفس إلى تزكية مطلقة لها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (من قال هلك الناس فهو أهلكهم) رواه مسلم، أي أشدهم هلاكاً، أو هو الذي تسبب في هلاكهم.