الإيديولوجية تعبير شاع حتى ذاع ثم انطفأ فضاع وأصبح رمزا ليبوسة الرأس ونشافة الدماغ تجاه الواقع المرن المتحرك، فأصبح سبة وعارا وصفة قوم صم بكم عمي فهم لا يفقهون. وفي مقابل ذلك النفعيون البراغماتيون وهو مصطلح سوَّقه الأمريكيون وهو ليس بجديد على مرونة التعامل والنظر بمصلحة الفائدة والنفع والضرر، وقد يكون كلام إبراهيم عليه السلام عن النفعية فيه جانب من هذا المذهب حين قال لقومه هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون؟ والقرآن بنى نظريته على النتائج فقال فانظر كيف كانت عاقبة الذين خلوا من قبل، وفي مكان ثان أنه اندرس أثرهم ومحي رسمهم فلا تسمع لهم ركزا وقال مفسر: الرِكز هو الصوت الخفي؟ وتأكيدا لهذا المبدأ ذهب صاحب كتاب (القوة) روبرت غرين في قانونه رقم 18 أن يتقن الإنسان فن التعامل مع الوضع حين يكون ضعيفا وقويا، فلا تذهب نفسه حسرات كما لا يكون من الباغين. ويذكر العديد من الأمثلة على هذا، ولعل حديث المؤمن والمنافق بما معناه (المؤمن كخامة الزرع تفيئها الريح فتعدلها حتى تنضج أما المنافق فمثل النبتة الجافة فتنجعف مرة واحدة)، ومفهوم عيسى بن مريم عن تحمل الأذى ومن ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر يدخل تحت هذا "التكتيك" في المقاومة السلمية، وهو ما نجحت به الثورات العربية في عام 2011 فكانت موعظة للغافلين وإحياء لسنة الأنبياء والصالحين في تحمل الأذى وعدم رد العدوان بالعدوان والقتل بالقتل. في عام 1941 هرب برتولدت برشت (Bertoldt Brecht) من النازية وسكن في لوس أنجلس حيث تعاون مع هوليوود في تسويق رواياته والكونجرس على خوف من هذا النشاط اليساري فسكت عنه وأشياعه حتى خرست مدفعية الحرب العالمية الثانية ثم استدعيت المجموعة كاملة من تسعة عشر نفرا، فاجتمعت قبل المحكمة في واشنطن ترى كيف تقاوم لجنة التحقيق فأمريكا بلد الحريات! إلا أن الألماني الشيوعي المحنك (برشت) خالفهم الرأي واعتمد أسلوبا مختلفا في التعامل مع لجنة التحقيق؛ فحين سألوه إن كان شيوعيا أنكر وليس ثمة من دليل على العضوية، وحين أشاروا إلى قصائده الثورية قال إنها ضد النازية التي هرب منها هل تؤيدون النازية؟ وحين سألوه عن مقالات لها فاحت منها رائحة الماركسية بدون ريب وشك؟ قال إنه ألماني والمقالة بالإنجليزية وقد أسيئت ترجمتها، ثم بدأ في تلاوة النص الألماني (أخت ماخت شخت برخت) ولا أحد يفقه الألمانية! في النهاية لم يكن أمام اللجنة إلا أنها تشكره فقد كان خير شاهد بل وقدمت له المساعدة فيما لو تعرضت له مصلحة الهجرة بالتدقيق والتفتيش؟ غادر بريشت أمريكا عام 1947 وهو ينفض عن كاهليه غبار التحقيق والاعتقال وولى الأدبار لا يصدق النجاة والفرار عائدا إلى ألمانيا المحررة من النازية ولم يرجع لأمريكا قط. ومن اليابان عندنا نموذج الوزير هوتا ماسايوشي عام 1857 بعد أن رأى بارجة الجنرال الأمريكي بيري فعرف أن العصر تغير ولا بد من التعلم من الخصم ومنه جاء الفتح المبين. وتذكر ميلان كونديرا من تشيكوسلوفاكيا من الحقبة الشيوعية تلك النكتة عن مباراة السجناء والحراس فلم يكن أمام المحابيس إلا التظاهر بأنهم فشافيش مساكين يغلبهم الحرس بسهولة فذهبت مثلا في طرق المقاومة في وجه الجبارين. ويحكي الفنان ليوناردو دافنشي الفنان الذي لم يعمر أكثر من 33 سنة مثل شجرة التين والكستنا كيف تخاطبتا فضحكت الكستنا من التين الناعمة التي يلتهم الناس ثمرها بقطفة، فردت شجرة التين بضحكة مجلجلة أما أنت فثمرك يحصل بالضرب والتكسير فأينا أفضل.