من أخطر المسائل التي تواجه التفكير المعاصر، قضية الأحكام العامة التي ترفض التفصيل وتقسيم المسائل والقضايا والأحداث إلى مستويات بحيث نستطيع التعامل معها بوعي وفهم، ومن هذه المسائل الكبيرة : الموقف من قضية الشيعة والتشيع، وخاصة حين اختلط فيها المستوى العقدي بالمستوى السياسي. وأنا أعتقد اعتقادا جازما أن التشيع مدارس ومناهج وتوجهات، وأن التعامل معها بالأحكام العامة هو طريق فتنة، ومؤشر خطورة. كانت جلسة جميلة مع السيد علي الأمين، وهو معروف بظهوره في القنوات الفضائية، وبنظرته التصحيحية داخل المذهب الشيعي، وجرأته في طرح أفكاره وخاصة في نقد مسالك الغلو عند الشيعة المتعلقة بالإمامة والعصمة وغيرها من القضايا، وهو عالم عروبي ومفت عام لجنوب لبنان سابقاً، فهو يسجل موقفاً واضحا من المد الصفوي الإيراني، ويرى أن القضية عند هؤلاء ليست قضية تشيع، وإنما هي نفوذ وتدخل في البلاد الأخرى، ومحاولة فرض رؤية قومية خاصة على الجميع، واختراق للعالم العربي والإسلامي باعتبار التشيع حصان طرواده على تعبير الدكتور عبدالله النفيسي. عندما تستمع إلى الشيخ علي الأمين، وغيره من الشيعة المعتدلين العروبيين الرافضين للغلو الفارسي، والداعين إلى التصحيح والتجديد ونفي ما شوه التشيع عبر التاريخ تدرك كم وقع العرب في خطأ كبير حين لم يدعموا التشيع العربي في مقابل التشيع الصفوي، وتدرك خطورة التعامل مع الناس ووضعهم في سلة واحدة ثم رميهم عن قوس واحدة، ولا شك أن هذا يوقع في التظالم، ويأخذ البرئ بجريرة المذنب والعدو. إن حديثا أو خطبة من شيعي عربي معتدل ورافض للمشروع الإيراني "ولاية الفقيه" لهو كفيل بدك حصون المخطط الإيراني، لأن فكرة مشروع ولاية الفقيه وحصر المرجعيات الشيعة الكبرى في الشيعة الفرس هو جزء من النظرة الاحتقارية والازدرائية التي يتعامل معها التشيع الفارسي مع التشيع العربي، وجزء من ركوب التشيع عامة في تحقيق الأجندات الإيرانية في المنطقة، وهذا يدفعنا إلى ضرورة التفريق بين مستويات كثيرة في التعامل مع الحالة الشيعية سياسيا وفكريا. إن القضية ليست في الموقف من "الفرس" كقومية وعرق، وليست القضية هي كذلك موقفا من "إيران" كدولة جوار، إنما القضية هي في "شعوبية" مبطنة ومعلنة، تحتقر الآخرين، وتستجر قضايا التاريخ، وتحاول فرض الهيمنة بالقوة والتخطيط، وتنطلق من أحقية النزعة الاستعمارية، وخلق حالة من القلق السياسي في كل أرض تطأ فيها أقدامها، وعليه فإن مقاومة هذه النزعة ليست في "الأوصاف العامة"، فلا الإيرانيون على قلب رجل واحد، ولا الشيعة كلهم موالون لإيران، ولا التشابه العقدي يؤدي حتما إلى التشابه السياسي والموقف العدائي، والإيمان بهذه المستويات يرسم لنا خارطة الطريق الصحيحة في طريقة التعامل مع القضية الإيرانية والمخطط الفارسي. لقد كان الشيخ علي الأمين يتحدث بحرقة عن المعاناة التي يواجهها من الشيعة الموالين لإيران في لبنان، ومن يسمع تلك المعاناة يدرك حتماً أن جعل الشيعة كلهم في خندق واحد مع إيران يدل على غياب وعي، وأن مثل الشيخ علي الأمين وغيره من الشيعة العرب حري بأن تمد له الأيادي، ويسمع صوته، وتفتح له القنوات حتى يجلي هذه النزعة الصفوية في التفكير الإيراني، فكل شيعي لا يؤمن بولاية الفقيه فهو ضد هذا المشروع الصفوي الخطير، وهؤلاء إما أن نصنع منهم موالين أو نصنع منهم معادين بسبب سياساتنا التعميمية التي تقصي من يريد أن يكون موالياً، والإنسان في حقيقته يمارس نزعة براغماتية، ويسعى إلى تحقيق ذاته ومصالحه، وينجذب إلى الأرض بالقدرالذي تحقق له الحقوق والأمن والطمأنينيه والشعور بالكرامة والإنسانية، فإذا ما حصل وجعلنا الصديق عدواً، وعاملنا الناس بجريرة غيرهم، فنحن بأيدينا نحفز الآخرين إلى التشوف إلى الولاءات الخارجية التي تحقق لهم طموحاتهم وأمانيهم، وتعدهم الوعود المعسولة التي تدك الولاءات، وتصنع الأعداء وتحقن النفوس بالكيد والمكر والتخطيط. هذا يدفعنا كذلك إلى مراعاة أن الساسة الإيرانيين ليسوا على مستوى واحد، فالمحافظون هم بؤرة المشكلة لأنهم عقديون مهدويون ينطلقون من عقلية "الثورة" لا عقلية "الدولة"، بينما ينزع الإصلاحيون في إيران إلى الممارسة السياسية التي لا تحركها محددات الثورة الخمينية التي تتأسس على فكرة الهيمنة والنفوذ، ولذلك كانت العلاقات متميزة بين السعودية وإيران إبان حكم الإصلاحيين، وهذا يدفع إلى مد الأيادي إلى كل ما من شأنه خلق حالة من الهدوء والقضاء على حالة التوتر التي ليست في صالح أحد وخاصة في هذه الظروف العصيبة التي تمر بالعالم العربي والإسلامي. لقد تأخر العرب كثيرا – وخاصة في الحالة العراقية – في المساعدة والمساندة للشيعة العرب المستقلين عن العقلية الإيرانية، وسلموا العراق باردة مبردة للإيرانيين ومواليهم من الشيعة في العراق، وفعلوا الأمر كذلك في لبنان حيث لم يفرقوا بينهم فوضعوهم في سلة واحدة، ثم جاءت القنوات الفضائية لتسوي بين المختلفين، وترميهم عن قوس واحدة مما حيز المعتدلين منهم والذين يمكن أن يسهموا في مواجهة المد الصفوي إلى أن يضطروا إلى أن يولوا وجهوهم شطر طهران، فنكون بأيدينا نصنع أعداءنا، ولعل هذا جزء من العقلية العربية التي تشيح بوجهها عمن يقترب منها، وتتملق دائما إلى من يظهر لها طرف السكين، فلا المحبين كسبت، ولا المعادين كسرت. إنه لا يجوز أن يكون الخلاف في بعض التصورات العقدية حائلا دون النظرة المنصفة للآخرين، والنظر في مستويات الخلاف، فالله تعالى أعطانا منهجية معتدلة ومنصفة مع المخالفين فقال: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى)، وإن من مقتضيات العدالة أن نعامل الناس بما يظهرون من مواقف معنا أو ضدنا، دون الانصراف عن الأمر الظاهر إلى قضايا خفية متعلقة بالعقائد الباطنة أو المرادات التي لا يطلع عليها إلا الله، فما أمرنا أن نشق عن قلوب الناس، أو أن نفتش في ضمائرهم. والله الموفق!