مع تفاقم الوضع الأمني في سورية نتيجة ارتفاع وتيرة عنف الدولة ضد المواطنين المدنيين، يطرح البعض احتمال أن تتدخل أمريكا, كما هي الحالة في ليبيا، ففي الحالة الليبية جاء التدخل العسكري الغربي بعد أن كشَّر النظام الليبي عن أنيابه، وبدأ بحرب لا تبقي ولا تذر ضد ثوار أرادوا الإطاحة بحكم تسلطي خيّم على قلوب الليبيين ما يقارب 42 عاما لم ينجح في دفع عجلة الازدهار في بلد غني بالنفط. التقدير الأمريكي الرسمي هو أن الانتفاضة السورية إن جاز التعبير آحذة في الاتساع لتشمل مدنا سورية كثيرة. ومع ذلك فإن الإدارة تخشى انعكاس الانتفاضة السورية على بلدان مجاورة مثل الأردن ولبنان، في حين أن البعض يرى أن في الانتفاضة فرصة لإضعاف واحدة من أهم حلفاء إيران في المنطقة ألا وهي سورية. مارك لاندلر كتب في 26 آذار (مارس) في صحيفة "نيويورك تايمز"، أن الولاياتالمتحدة حاولت ولمدة سنتين أخذ سورية إلى طاولة الحوار حتى تتوصل إلى سلام مع إسرائيل, ومن ثمَّ إخراجها من المدار الإيراني، إلا أنها لم تفلح في ذلك, ما أحرج الرئيس أوباما وجعله عرضة لنقد داخلي، على اعتبار أنه أسهم في تقوية نظام قمعي. ويخشى البعض في واشنطن أن ما يجري في سورية والأردن يمكن له أن يفضي إلى عزلة إسرائيل في المنطقة بعد أن اهتزت إسرائيل بسبب التغير في النظام المصري. غير أن المشكلة هي أن الوضع السوري مقلق للولايات المتحدة على وجه التحديد، فإذا ما قرر الرئيس السوري قمع المتظاهرين كما فعل والده في مدنية حماه, فإن ذلك سيضع ضغطا على الإدارة الأمريكية التي ستتعرض لسؤال حول تدخلها في ليبيا لمنع قتل المدنيين وعدم تدخلها في سورية في وجه ما يمكن وصفه بمجزرة ضد العزل من المدنيين. كما أن هناك في الإدارة الأمريكية من يرى أن بقاء نظام الرئيس السوري أقل تكلفة من تغيير يمكّن السنة من تسلم السلطة، وانعكاس ذلك على الإسلاميين الذين قد يتسلمون السلطة، ويشكلون حكومة سنية متزمتة أكثر بكثير من حكم العلويين. وأكثر من ذلك فهناك من يطرح سيناريو أن يقوم الأسد بمغامرة في السياسة الخارجية حتى يشتت الانتباه عما يجري في الداخل, لكن هذا السيناريو مستبعد من وجهة نظري لأسباب كثيرة، منها استفادة سورية من الاستقرار الإقليمي بصرف النظر عما يجري داخل سورية. ويقول أحد أعضاء الإدارة الأمريكية إنه لا يمكن لسلام شامل أن يعم الشرق الأوسط دون سورية, والخشية أن يفقد النظام مصداقيته مع شعبه، ما يصعب من مهمة صنع السلام. من هنا فإن القمع الذي يمارسه النظام السوري ضد المدنيين المحتجين والمطالبين بإصلاحات حقيقية يطرح علامة استفهام حول الاشتباك الأمريكي مع سورية برمته. غير أن التدخل العسكري الغربي في سورية على نظير ما يحدث في ليبيا غير مطروح على الأقل الآن، وحسب جاي سلمون من "الواشنطن بوست" فإن خيار التدخل الخارجي في سورية حتى توقف سورية قمع المتظاهرين مستبعد. وناقش القضية كل من وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ووزير الدفاع روبرت جيتس في لقاءات إعلامية, وبينا أن الولاياتالمتحدة لا تسعى إلى حشد التأييد الدولي للعمل ضد سورية أو قوات الرئيس بشار الأسد كما هو الحال مع ليبيا. وتعلل هيلاري وجيتس موقف الإدارة أن الرئيس الأسد ما زال بإمكانه أن يبدأ بالإصلاحات, كما أن القمع السوري للمتظاهرين لم يصل بعد الحد الذي وصل إليه النظام الليبي في تعامله الوحشي مع الليبيين. الراهن أن الولاياتالمتحدة غير قادرة على التعامل وبفاعلية مع التغيرات السريعة في الشرق الأوسط، ولهذا فإن موقف الإدارة حيال سورية لغاية الآن يعكس حقيقة صعوبة صوغ سياسة خارجية؛ لأن البيت الأبيض ما زال يعاني عدم القدرة على تبني مقاربة منسجمة إزاء الموجة الديمقراطية العربية التي انطلقت قبل أشهر في العالم العربي. ومع ذلك يحرض بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي بالقول إن لأمريكا مبررا ومصلحة في الخلاص من النظام السوري، فسورية حليف استراتيجي وثيق ومقرب من إيران، كما لعبت دمشق دورا حيويا في تسليح المتمردين في العراق وفي لبنان وفي الأراضي الفلسطينية. وهذا الموقف يجد صدى في عواصم أوروبية باتت ترى أن سقوط نظام الأسد يمكن أن يضعف وبشكل كبير التحالفات الإقليمية القائمة بين طهرانودمشق، هذا مع العلم أن هناك من يحذر من إمكانية اندلاع صراعات إثنية وطائفية داخل سورية في أعقاب سقوط النظام السوري الحالي. غير أن الوزيرة هيلاري كلينتون عبرت عن موقف أمريكي يرى أنه ما زال هناك أمل في أن تجنح دمشق بعيدا عن إيران وتسعى إلى تبني تغيرات سياسية واقتصادية. وفي مقابلة لها مع شبكة سي بي إس تقول هيلاري: إن هناك العديد من أعضاء الكونجرس زاروا سورية وخرجوا بانطباع بأن الأسد رجل إصلاحي. الموقف الأمريكي من سورية يطرأ عليه تغيرات بعد أن غادرت الإدارة الحالية فكرة عزل النظام السوري التي استندت إلى دعم مؤسسات ديمقراطية في سورية، وعملت على فرض عقوبات على دمشق, كما أنها دفعت وبقوة باتجاه تشكيل المحكمة الدولية للتحقيق في مقتل رفيق الحريري في محاولة أمريكية واضحة لتسييس المحكمة لعلها تنال من النظام السوري. الرئيس أوباما تبنى مقاربة مختلفة مع دمشق، فقد قام بإرسال سفير أمريكي بعد استدعاء واشنطن سفيره السابق في سورية احتجاجا على مقتل رفيق الحريري، كما قام بالتخفيف من وطأة العقوبات المفروضة على سورية في محاولة منه لإحداث تغيير في سياسة سورية الخارجية. ولعل رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي جون كيري الأقرب للنظام السوري، فقد حاول كيري كسب ود الرئيس من خلال الاشتباك معه في حوارات كان يرى كيري أنها ناجحة, بحيث تمت مناقشة الطريقة الأفضل لاستئناف المفاوضات بين تل أبيب ودمشق. لهذا ليس مستغربا مع ارتفاع وتيرة الاحتجاجات السورية أن يخرج علينا كيري بالقول إنه يعتقد أن الرئيس السوري عنصر تغيير. وفي محاضرة له في مؤسسة كارنيجي الأمريكية قبل أيام، قال كيري إن الكرة في الملعب الأمريكي, إذ ينبغي أن تتحرك واشنطن إلى الأمام بشكل إيجابي مع الأسد، هذا مع الأخذ في الحسبان استحالة استمرار كيري في الدفاع عن نظام الأسد إن اشتدت وتيرة القمع السوري. وسياسة أوباما لها من يؤيدها ولها من ينتقدها، فمن جانب يرى البعض أنها لم تسهم في تغيير الموقف السوري, بدليل أن تحالفها مع إيران توثق بشكل أكثر من ذي قبل، وقامت بتسهيل انتقال أسلحة متطورة من أراضيها إلى حزب الله في لبنان، كما أن هناك من يرى أن الأسد عندما يكون ضعيفا فإنه سيلجأ إلى الغرب وسيتقدم بعملية السلام كطريقة للتخفيف من الضغط على نظامه. ويدلل على ذلك ما رشح أن الأسد قال إنه يرغب في معاهدة سلام مع الدولة العبرية. إليوت أبرامز الذي شغل منصبا مهما في إدارة الرئيس بوش السابقة كتب على موقع مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، ما يفيد بأن إصلاح الجمهوريات في العالم العربي أمر مستحيل؛ لأن توظيف العنف هو الطريقة الوحيدة للبقاء في الحكم. ويرى أن المراهنة على ربيع جديد في دمشق بعد موت حافظ الأسد كانت مراهنة فاشلة، لهذا يرى أن اختفاء العائلة الحاكمة في دمشق في مصلحة الولاياتالمتحدة, فهذا النظام هو الذي حوّل سورية لتكون طريقا سهلا يسلكه متمردو العراق لدخول العراق وقتل الأمريكيين، كما أن النظام جعل من سورية ملاذا آمنا لقادة حماس. ويرى أن نظاما سوريا تحت قيادة سنية لا يمكن له أن يتحالف مع حزب الله ولا مع إيران، وبهذا ستخسر إيران حليفا عربيا مهما، وستخسر جسرا أرضيا يصلها مع حزب الله في لبنان. الجانب الإسرائيلي هو الأكثر تأثرا من أي نتيجة سيفضي إليها الحراك الحالي القائم في سورية، وتل أبيب ما زالت تترقب دون أن تعبر عن سياسة معينة إزاء ما يحدث. وقد كتب اتمار رابينوفيتش، كبير مفاوضي إسرائيل مع سورية إبان حكومة العمل في منتصف التسعينيات، مقالا في صحيفة "يديعوت أحرنوت" قائلا إن النظام السوري ولغاية الآن لجأ إلى وعود الإصلاح واتخاذ خطوات عنيفة في الوقت ذاته ضد المحتجين ومع ذلك فشل. ويشير إلى أن هناك دلائل ومؤشرات على انقسامات داخل النظام السوري الحاكم بين من يريدون أن يبدأوا بإصلاحات جذرية وبين من يرون أن مثل هذه الإصلاحات ستضعف النظام القائم وتضعه في دائرة الخطر والاستهداف. ويرى اتمار رابينوفيتش أن تغييرا في النظام السوري أو عدم استقراره لفترة طويلة سيكون له انعكاسات كبيرة على الشرق الأوسط وعلى أمن إسرائيل. فمن وجهة نظره، سيكون هذا التغيير ضربة قوية للنظام في طهران، فإيران لغاية الآن استفادت كثيرا من التغيير الذي حدث في مصر, حتى من الأحداث في البحرين، كما أن الحراك في السعودية عمل على تقوية محور المعارضة وشتت انتباه المجتمع الدولي بعيدا عن الملف النووي الإيراني وحماس وحزب الله. ويرى اتمار رابينوفيتش أن الحراك الأخير منح مناهضي إيران مساحة ليلتقطوا أنفاسهم, خاصة في لبنان، لكنه يرى أن هناك مخاطر من أن يغري الوضع النظام السوري والإيرانيين للجوء إلى التخفيف عن سورية عن طريق تسخين الجبهة مع إسرائيل. وترى إسرائيل أن الصراع واحتمال أن يستمر القمع العنيف للمتظاهرين في سورية ربما يخلق معضلة للولايات المتحدة ولحلفائها في المنطقة, فالتدخل الغربي في ليبيا, الذي جاء تحت ذريعة أنه لا يجوز السماح للنظام الليبي بالاستمرار في قتل الليبيين الذين يبحثون عن الديمقراطية والحرية، يمكن أن يطرح تساؤلا صعبا على الولاياتالمتحدة, فهناك من سيقول: لماذا التدخل في ليبيا وعدم التدخل في سورية لمنع سفك الدماء, خاصة أن المظاهرات السورية سلمية؟! لم يعد لإسرائيل خيار سوري، وهو الخيار الذي طالما تلاعبت به إسرائيل في سياق لعبتها الشهيرة على المسارات العربية، فعلى الأرجح لن تستسأنف المفاوضات في هذه الظروف، فكثيرا ما عبرت المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية تفضيلها المسار السوري نظرا لاستقرار النظام، ونظرا لأن إسرائيل تسعى إلى إلحاق ضرر بالنظام الإيراني, وكذلك لأن المسار السوري يمكن أن يكون مفتاحا للتغيير في لبنان. لكن هذه المدرسة في حاجة إلى إقناع نتنياهو بأن ثمن ذلك كله هو الانسحاب من الجولان, ولا يبدو أن نتنياهو مستعد لذلك لأسباب أيديولوجية وائتلافية. وهنا سيظهر من يقول إنه لا حاجة إلى إسرائيل لسلام مع نظام يتهاوى. باختصار، لا يمكن التنبؤ بقوة الحراك الحالي في سورية, وما إذا كان بالإمكان إحداث تغيير في النظام السوري، كما لا يمكن للمدافعين عن علاقات مختلفة مع سورية الاستمرار في الدفاع عن النظام السوري كنظام يسعى لإصلاحات إن استمرت المظاهرات ورفعت دمشق منسوب القمع الدموي لمتظاهرين سلميين. فهل ستصمد أمريكا ومعها الغرب في مواجهة الانتقادات التي تحثهم على عدم الازدواجية نظرا لما يحدث في ليبيا؟ وهل عندها ستسكت إيران أم أنها ستحرك حزب الله في جنوب لبنان ما يعني خلط الأوراق مرة أخرى؟!