د.هاشم عبد الله الصالح - الاقتصادية السعودية أريد له ذلك أم لم يُرَد له، أصبح معرض الكتاب السنوي في الرياض حدثا ثقافيا ينتظره الجميع؛ فالكتاب هو عنوان للحراك الثقافي في أي مجتمع، وبالتالي فهذا المعرض هو مناسبة ليس فقط لدور النشر لعرض ما عندها من كتب حديثة أو إصدارات جديدة لكتب قديمة، وإنما هو مناسبة ومحفل وطني للاحتفاء بالثقافة وأهلها وإتاحة الفرصة لأهل الفكر والثقافة والمتلقين لها للالتقاء وتبادل الرأي، والاطلاع على ما استجد في المجال الثقافي المحلي منه والعالمي. صحيح أن معرض الكتاب في هذه السنة وما سبقها قد شهد تدافعا أو بالأحرى صراعا لقوى اجتماعية ثقافية، بعضها يرى في هذا الحدث تهديدا لولايته الثقافية على المجتمع. فالثقافة قوة، وإن كانت من القوى الناعمة، لكنها في النهاية هي قوة تريد لنفسها حضورا وسيطرة في المجتمع، وقد يتمثل هذا الحضور في ثقافة مخدرة للنفوس ومسطحة للوعي ومعطلة للتفكير والإبداع، فهنا يكون المجتمع تحت سيطرة ثقافة متخلفة وتريد أن تجذّر هذا التخلف في أذهان الناس. فهي ثقافة من سماتها أنها تحارب العلم والمعرفة وترحب، بل تحتفي بالأساطير والأوهام والخرافات وكل ما يخدّر الناس ويغيّب وعيهم، وهي ربما أيضا تريد أن ينقسم المجتمع ليسهل لها السيطرة عليه، فهي تستأنس عندما يستعمل المجتمع ما عنده من تنوع فكري أو ديني أو مذهبي في بناء محميات ثقافية تعزل هذه الفئات عن بعضها، وتمنع التواصل فيما بينها. وبما أن هذه الثقافة تريد بقاء المجتمع على تخلفه فإنها تجتهد في سد كل المنافذ التي قد يأتي منها التغيير، فهي تهتم ببناء الأسوار والعمل على زيادة سُمك وارتفاع هذه الأسوار لئلا يكون هناك ثقب أو فرصة يتسلل منه التغيير الذي لا ترغب فيه إطلاقا. ولكن هذه الثقافة لا تجد غضاضة في شرع الأبواب والنوافذ وتسوية الأسوار والجدران التي تفصلها عن الماضي؛ وذلك لأنها تريد للمجتمع والحاضر أن يتماهى مع الماضي بكل تفاصيله ومفرداته، فالخروج عن هذا الماضي هو أمر غير مرغوب به، بل هو يدخل في باب الانحراف والفساد الذي ربما قد تسرَّب نتيجة للتساهل في ربط المجتمع بقوة مع الماضي، فعند هذا النوع من الثقافة، في أي مجتمع، خوف شديد من المستقبل، وهذا الخوف له علاقة مباشرة بتنافر هذه الثقافة مع أصل التغيير. وبالتالي فإنه ليس من المستغرب أن يواجَه هذا المعرض وهذا الحدث الثقافي بممانعة ورفض، أو بدرجة أقل توتر وعدم ارتياح؛ لأن البعض يرى في هذا الحدث فرصة لحراك ثقافي وتفاعل فكري قد يسمح للتغير من أن يدخل إلى المجتمع، وعندها قد تهتز ثقافته وتتاح الفرصة لخروج هذا المجتمع من سيطرة ثقافة معينة إلى ثقافة مغايرة، وربما تكون أكثر رحابة وأكثر انفتاحا على المستقبل، وعندما ينفتح المجتمع على المستقبل ويتحرر نوعا من قبضة الماضي تتحرك عنده عجلة التطور والتقدم. والمشكلة الأخرى تكمن - ربما - في تطور هذا الرفض وهذه الممانعة من الشكل السلمي إلى نوع من أنواع العنف البدني والنفسي، الذي ربما يكون أبسط أشكاله هو المضايقة ومصادرة حقوق المرتادين في الاستفادة والاطلاع على ما هو متاح ومعروض من منتجات فكرية وثقافية. فالصراع هو حاجة اجتماعية طبيعية وليس هو بالقضية المرفوضة على النطاق الفكري والثقافي طالما بقي هذا الصراع في إطار التدافع الفكري، وطالما كان محدودا بسقف التبادل في الرأي والفكر والقناعات المتعددة والمتنوعة. وفي المقابل، قد تكون هناك ثقافة تؤمن بأنها قوة وترى أن من حقها أن يكون لها حضور في المجتمع، لكن هذا الحضور لا يعني عندها الإمساك بخناق هذا المجتمع والسيطرة عليه بقدر ما هو الانشغال بإطلاق قدرات وإمكانات هذا المجتمع ليعيش في إطار ما يحويه الواقع من تحديات وما يختزنه من مشاكل وما ينتظر أن يأتي به المستقبل من فرص واستحقاقات. فهذه الثقافة مهمومة برفع درجة الوعي عند المجتمع؛ لأن الوعي بالنسبة للمجتمع يمثل أحسن نظام سلامة يحتمي به هذا المجتمع من الوقوع في الجهل والفتن وعدم الاستقرار، فهذه الثقافة يكفيها أن تكون هناك درجة عالية من الوعي عند مكونات المجتمع المختلفة حتى يكون هذا المجتمع هو سيد نفسه ولا يعطي زمام أموره إلى من يريد أن يأخذه إلى ما هو في غير مصلحته. فالمجتمع الواعي يصعب جره إلى حالة من الاستقطاب الحاد في حالة وجود خلافات بالشكل الذي يجعل كل فئة فيه تحاول تهميش أو إسقاط الفئات الأخرى، والوعي في المجتمع يحرم طلاب الفتنة المذهبية والطائفية من جر المجتمع للوقوع في دائرة العنف المذهبي والطائفي. وهذه الثقافة تعرف جيدا أن غياب الوعي وانحساره يعني تحكم المخاوف المبنية على الأوهام، والمجتمع الذي يعيش حالة الخوف باستمرار هو مجتمع مشلول وغير قادر على أن ينهض بنفسه، ولا يستطيع أن يستثمر ما عنده من إمكانات للانطلاق في عملية التنمية والبناء. ففي مقابل الخوف من الفعاليات الثقافية على شاكلة معرض الكتاب، هناك ثقافة تدفع بالمجتمع إلى الإقبال والاحتفاء بهذا الحدث الثقافي، وهي ترى أن هذا الحدث لا بد من أن ينمو ويتطور ليرفع من درجة وعي المجتمع أمام ما يواجهه من تحديات ويعيشه من أزمات. ولا سبيل لحدوث مثل هذا التطور إلا بالسماح لهذا المعرض من أن يتحول إلى منتدى للحراك الثقافي الحقيقي الذي تتمثل فيه كل القوى والفعاليات الثقافية الموجودة في المجتمع. وإذا كان هناك في عالم الاقتصاد والتجارة ما يسمى بالمنطقة الحرة والتي يراد بها تعزيز التبادل التجاري بين الدول، ومن أجل التخلص من المعوقات التي قد تعيق مثل هذا التبادل، وبالطبع إن هذا له مردود إيجابي على اقتصاد هذه الدول، فهناك من يريد أن يستنسخ هذه الفكرة في الحقل الثقافي، فالمجتمع فعلا في حاجة إلى منطقة حرة للتبادل الفكري والثقافي لتعزيز الحراك الثقافي في المجتمع وتخليص هذه الثقافة على الأقل في هذه المنطقة الحرة مما قد يمارسه البعض من قمع وإرهاب فكري يحرم المجتمع من ظهور وتبلور أفكار ورؤى جديدة ترتفع بمكانة المجتمع وتزيد من قدرته في التعاطي مع الواقع الذي يعيشه. هناك الكثير من الجوانب الإيجابية التي سيجنيها المجتمع من وجود مثل هذه المناطق الحرة للفكر والثقافة، لكن وبسبب ضيق المساحة المتاحة لهذا المقال فلنا أن نستعرض بعضها وبشكل موجز: 1- في حالة وجود اختلافات وتباين في الآراء وتنوع في الاجتهادات يظن البعض أن مساحة الاختلاف هي الأكبر، وبالتالي تشحن النفوس وتؤجج المشاعر وتثار العواطف لإثارة الفتن والاضطرابات وعدم الاستقرار في المجتمع، فوجود مثل هذه المناطق الثقافية الحرة تتيح الفرصة إلى إظهار المشتركات، التي هي في أغلب الأحيان لها المساحة الأكبر، وأن تسليط الضوء على هذه المشتركات وتوعية الناس بها يعزز من حالة التواصل بين مكونات المجتمع ويحرم على المستفيدين من فرصة العبث باستقرار المجتمع. 2- إن المثقفين ورجال الفكر وبالأخص في المجتمعات التي تعيش في مخاض تحول ثقافي هم في حاجة إلى منطقة يشعرون فيها بالاحترام والأمان لطرح ما يؤمنون به من آراء وأفكار وقناعات ثقافية وتتاح لهم الفرصة أيضا وبكل هدوء للاستماع إلى الآراء المخالفة، ومن ثم استثمار هذا التباين للخروج ربما بآراء أكثر رشدا وأفكار أكثر نضجا وقناعات أكثر رسوخا، وهذا كله يعود على المجتمع بالمزيد من الوعي والتماسك. 3- إن المجتمع يهمه أن تكون ثقافته ثقافة حية ولها القدرة على احتواء الحاضر والتفاعل مع المستقبل، والثقافة الحية لا يدب فيها الحياة إلا بوجود مناخ صحي من النقد، فالثقافة التي لا تمارس النقد على نفسها ولا تقبل النقد من غيرها هي ثقافة ميتة وأعجز من أن تبعث الحياة في مجتمعها. فوجود مثل هذه المناطق الحرة للثقافة يفعل ويعزز من أجواء النقد الثقافي. أخيرا، إن معرض الكتاب يؤكد حضوره سنويا ويرسخ نفسه على أنه حدث ثقافي يتسع في كل سنة من خلال زيادة فعالياته الثقافية إلى جانب ما يعرض من كتب ومنتجات ثقافية. فهذا الحضور المتزايد لتأثير معرض الكتاب على ساحتنا الثقافية ربما يحمل إمكانات تحوله فعلا من فقط معرض كتاب إلى فضاء مفتوح ومنطقة حرة فعلا للمثاقفة والتبادل الفكري.