القصة التالية نقلها لنا فؤاد الخفش، الباحث المعروف في شؤون الأسرى، والمشرف على موقع أحرار على الإنترنت، وهي تحكي واقعة لقاء عابر، بل أكثر من عابر في ساحة سجن «هشارون» الإسرائيلي بين البطلة أحلام التميمي التي تقضي حكمًا بالسجن لستة عشر مؤبدا، والمجاهد الأروع، إبراهيم حامد، قائد كتائب القسام في الضفة الغربية، والمعتقل منذ ست سنوات ويتوقع أن ينال الحكم الأكبر في تاريخ دولة الاحتلال، ربما يصل إلى مئة مؤبد، وبالطبع لمشاركته وإشرافه على عمليات أدت إلى مقتل ما يقرب من مئة من الإسرائيليين، حيث يعرف أن كل قتيل يقابله حكم بالمؤبد. يسعدني أن أنقل هنا بعض وقائع القصة، لاسيما أنني تشرفت بلقاء إبراهيم الذي عاش في عمان لبعض الوقت، حيث عرفته كباحث ومفكر شارك معنا في الكتابة لمجلة «فلسطين المسلمة» خلال النصف الأول من التسعينات قبل أن يعود الضفة الغربية مفضلًا طريق البندقية على طريق القلم والفكر، فكان أن قدم بعطائه وبطولته ما يتفوق بأثره عن مليون مقال وألف كتاب. القصة التالية يرويها الخفش نقلا عن محامي إبراهيم الذي وقف مشدوها أمام ذلك اللقاء بين البطل والبطلة، بين الأخ والأخت، بين التلميذة والأستاذ. يقول الخفش: وقفت أحلام على مسافة ليست بالبعيدة عن إبراهيم، وأشارت له بيدها بعد أن أشهرت إصبع السبابة وقالت له: أخي أبا علي فرّج الله كربك. اصمد واصبر أيها الرجل. الليل ساعات ويرحل. من صوتك وأنت ترتل سورة الإسراء نستلهم الصبر. ومن عيونك التي تشع إيمانا نزداد عزما ومضاء. رد عليها أبو علي وقال لها موعدنا مع التحرير قريب، سيزول ليلهم وسيبزغ الفجر، استغلي كل دقيقة من وقتك وهيئي نفسك للقادم من الأيام. سلامي لأخواتي الأسيرات واعلمن أنكنّ الآن تكتبن التاريخ وعين الله ترعاكنّ . حدث ذلك أثناء لحظات عابرة خرج خلالها إبراهيم لزيارة المحامي بينما كان البطل والبطلة محاطين بعشرات الجنود والمجندات ممن حاولوا بكل الوسائل وشتى الطرق أن يمنعاهما من الكلام، لكن الرسالة وصلت وجاء الرد، ثم مضت البطلة إلى زنزانتها، ومضى البطل إلى عزله (معزول عن بقية الأسرى منذ اعتقاله)، بينما وقف المحامي الذي نقل المشهد مبهورا من هذه الروح التي تحدثت بها أحلام ومن الثقة التي أجاب بها إبراهيم. كان إبراهيم كما هي العادة عند الخروج من الزنزانة مقيد اليدين والقدمين يمشي بخطىً بطيئة. يداه للأمام. يرتدي بدلة رياضة وفي قدمه حذاء رياضي، بينما يحيط به عشرة جنود جميعهم مدججون بالسلاح، لكن الذعر من البطل لا يغادرهم، وكذلك كانت أحلام مصفدة بالقيود ومن حولها المجندات، لكنها لم تنس الحديث عن موعد الحرية، كما لم تنس أن تبعث بتحياتها إلى زوجة إبراهيم المبعدة، الأسيرة المحررة أم علي وسلمى (أسماء) التي كانت رفيقة قيد لأحلام قبل سنوات. من أين يستمد هؤلاء الأبطال كل هذه العزيمة وكل هذا الصبر؟ إنه الإيمان، ليس الإيمان بموعد الحرية، لأن شيئًا كهذا يبقى في علم الله، لكنه الإيمان برب عظيم قال لعباده: «إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب»، وإبراهيم خرج يطلب الشهادة، لكن مشيئة الله جعلته أسيرا، ربما ليكون شاهدًا على المرحلة، وليكون عنوانًا للصبر، ونموذجًا للعطاء. هذا المفكر العظيم والبطل الأروع سيبقى شوكة في حلوق الصهاينة، يذكرهم بأنهم راحلون لا محالة عن هذه الأرض التي تلعنهم صباح مساء، وسيظلون يتذكرون أن وراء قضبانهم بطلًا لو كان لديهم مثله لكتبوا عنه الكتب وأنتجوا عنه الأفلام، لكن تاريخهم تاريخ جبن وغدر لا تاريخ بطولة وصبر. لا يعني ذلك أن أمل إبراهيم وأحلام بالحرية هو مجرد تحليق في الخيال، بل هو أمل حقيقي، وأنا هنا لا أتحدث عن صفقة الأسرى، بل عن زوال هذا الاحتلال الذي يعيش مرحلته الأخيرة بعد أن بدأ منذ سنوات بعيدة منحى التراجع. فجر فلسطين وفجر إبراهيم وأحلام وسائر الأبطال قادم بإذن الله، مع التذكير بأن هذا النموذج من الأبطال إنما يرجون ما عند الله أكثر مما عند البشر أو في هذه الدنيا. ألم يجعل رب العزة الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلًا حتى يتبوأ هؤلاء أماكن تختلف عن سواهم من الناس الأقل إيماناً وعطاءً. سلام على إبراهيم وأحلام وسائر الأبطال الصابرين في كل سجن وكل ثغر من ثغور الحق. سلام، سلام.