الدور الوظيفي المناط بالعالِم يتمحور حول أمر جوهري يتمثل في إيجاد حلول احتوائية لمحاصرة مناطق التأزم حتى لا تخرج عن نطاق السيطرة، وتجفيف منابع الاحتقان بعد تعقّب منشئها وترشيد مسار الوعي الكلي وتوجيه بوصلته وإضاءة دروبه نحو مواطن التألق الحضاري. إن العالِم المفكر بفعل ما يملكه من خبرات العصر المعرفية قادر على أن يشخص تضاريس الوجع في الواقع ولديه القدرة على تفكيكه وتشريح بنيته والتّماس مع العناصر المؤثرة في تكوينه؛ إنه يرصد الآني ويتفاعل مع تشكلاته ويستشرف من خلال النظر المآلي المخاطر المستقبلية قبل تعيّنها بزمن كاف ومن ثم يباشر واجبه التحريضي على مواجهتها والذود عن المواقع الثقافية لأمته من خلال التحصين الفكري من الداخل وتفكيك قيود الجهالة وتنقية الوعي من أدران الخرافة. هذه المسؤولية يتعذر مكابدة مباشرتها ومعاناة مقتضياتها إن لم يكن ذلك المفكر عميق الحضور، ليس ذلك الحضور المزيف والوجداني والذي يفرضه ضغط الأحداث والاحتقان العام وإنما حضورا مُدَللا ومثريا ومرتبطا بمجتمعه ومتصلا به عبر وشائج علائقية ممتدة تتيح له التواصل مع كافة الشرائح نخبوية كانت أو جماهيرية. إن العزلة عن المجتمع سواء كانت شعورية أو ذات طابع مادي لا تليق بأولئك العلماء الذين حملوا لواء المعرفة على النحو الذي يؤهلهم لتبوىء منصب القيادة الفكرية والتربع على مواقع التأثير وتوجيه السلوك الحياتي العام من خلال جعله مشدودا نحو محور محوري محدد والحيلولة بينه وبين الانسياق خلف آفاق غائية تفقد المجتمع مركزية الهدف ومنطقية الغاية. إن المجتمع لا يثق بذلك الداعية الواعظ! الذي لا يستشعر هموم مجتمعه ولا يتحسس نبض الشارع فكل همّه منصب - وبنهم لا محدود - على توسيع مكتسباته الذاتية حتى ولو كان ذلك يتطلب الالتفات على الأدبيات الدينية ووأد مقومات حضورها هذا النوع هو ضحية لسيطرة مشاعر حادة بالكلانية والنرجسية ولذا يستفزه النقد ويربكه الناقد، لماذا؟ لأنه يتوهم - مع أنه قد يكون مجرد واعظ - أنه القطب الكوني الأوحد وأن الكائن المختلف على جُل مستويات الكينونة ليس إلا هامشا يتغذى من ضفاف متنه! ثمة مواهب فذة وطاقات متمكنة يزخر بها الفضاء الاجتماعي ولو التفت حولك ذات اليمين أو ذات الشمال فلن تعدم معاينة شاهد عليها ولكن تلك الكائنات المتميزة آثرت الانطواء والانفصال عن المجتمع والانصراف نحو عالمها الخاص المحدود وانتخاب الحالة الانكفائية لصالح إنفاق الطاقة الزمنية في التنقل بين الأوعية المعلوماتية لامتياح ما يتاح من معطيات معرفية تظل في النهاية حبيسة الصدور وسجينة داخل أروقة الذهن بينما المجتمع لا يطاله منها كبير عائد!! وأي قيمة لمعرفة لازمة غير متعدية، وأي قيمة لمعرفة لا يتم توظيفها للتأثير في السياقات العامة نعم قد يواجه ذو الفكر عقابيل تعترض سبيله الإصلاحي ولكن هذا ليس مسوغا للمفاصلة والتواري عن دنيا الناس فالمسكون بالهم النهضوي يظل مقداما حاثّا الخطى في سبيل القيام بالنشاط الإشعاعي، وهو مهما واجه من عقبات إلا أنه لا يعتزل المشهد ولا يستفزه النقد وإنما يصبر ويصابر ويرابط ويناضل من أجل فكرته ولتوسيع إطار التفاعل مع أطروحته إنه يواصل عطاءه على نحو لا يتوقف إلا ليلتقط أنفاسه ثم يؤوب مفعما بالطاقة الحادية نحو المزيد من البذل التنويري اللامحدود. إن العزلة وأْد للذات وكبت للفكر وإهدار للإمكانات وإفساح - وهذا هو الأخطر- في المجال لغير ذوي الكفاءة ليستأثروا بقيادة المجموع والتربع على قمة المشهد على نحو يجعل منهم شخصيات رمزية تتحكم في مسار الوعي العام. إن العزلة آية على الوهن وعلامة على الضعف وانخفاض منسوب الجرأة الأدبية ودلالة على عدم وجود الثقة الدافعة نحو مواجهة عراقيل الحياة ولاشك أن هذا شأن لا يليق بمن حُمّلوا الأمانة وأنيط في أعناقهم الواجب الترشيدي. إنه لا يليق بذوي العلم وأرباب الفكر أن يدلفوا في حنادس العزلة وينزووا في سراديب الأبراج العاجية المقفلة وعدم معايشة الواقع وعدم تلمس هموم الناس وعدم التطلع صوب تذليل ما يواجههم من عقبات كأداء وفي مختلف المجالات. قطع خطوط التّماس مع السّوى شأن مناف لمقتضيات الجبلة التي طبع الإنسان عليها والذي هو كما يقال: مدني بطبعه يؤثر الخلطة ويصطفي الائتلاف وينفر من إرهاصات القطيعة. إن عقل المجموع في عصر البث الفضائي وتضاعف قنوات الاتصال باتت تتنازعه مفردات عديدة ومتناقضة وتتدفق بغزارة ملحوظة مما يجعله بأمس الحاجة إلى قيادة فكرية مؤثرة ومرجعية علمية معتبرة تتجافى ضبابية الطرح، وانفعالية التناول، وهلامية الرؤية، وتتقن التعاطي مع القاعدة العريضة فترسم لها وبهدوء معالم الطريق وتصوغ لها ملامح السياقات المأمونة وتحررها من الأنماط النمطية والأعراف التقليدية وتجلي لها ما هو من قبيل العادات والتقاليد وما هو داخل في الإطار الديني لتميز بين هذا وذاك من خلال عقلية منهجية قادرة على الفرز والتجاوز ورسم هياكل المستقبل.