يبدو أن العالم يضلل نفسه في المصطلحات أو أنه تم تضليله بها وإلا كيف أصبح مصطلح "ثقافة" يلصق بنقيضه البشع تماما؟ فقد أصبح من السائد المألوف جدا في كل الأدبيات والكتابات، على مستوى العالم كله، أن يزج بكلمة "ثقافة" وإدماجها سابقة لنزعات شريرة بشعة منحطة، وبتنا نقرأ أو نسمع عن "ثقافة العنف"، "ثقافة الاستبداد"، "ثقافة الفساد"، "ثقافة التطرف"، "ثقافة العنصرية"، "ثقافة الموت"،... إلخ، في حشر قسري للصالح مع الطالح تحت مظلة الثقافة ما نزع عن الثقافة هالتها النبيلة ولطخ وجهها وغمسها في مستنقع الرذائل. إنها لدلالة ذات مغزى عميق أن الثقافة كلمة مشتقة أساساً من الكلمة اللاتينية cultura المشتقة من colere، التي تعني (يزرع الأرض) بكل ما في الزراعة من العمل والخلق والإنتاج أو التحول المفصلي في حياة الإنسان من الغابة والوحشية والحجر والبدائية إلى الإمساك: بمصيره وصناعة الحضارة. ومع أن للثقافة تعاريف عديدة، أحصاها عام 1952 كل من ألفريد كروبير ووكلايد كلوكهن ب 164 تعريفاً في كتاب (الثقافة: مراجعة نقدية للمفاهيم والتعاريف) إلا أن بزوغ المصطلح في القرن الثامن عشر ظل إحالة لمعنى الاستصلاح والتحسين في الزراعة ثم أخذ في القرن التاسع عشر يشير إلى تحسين أو تعديل المهارات من خلال التعليم وتحقيق الرخاء والقيم العليا، في إزاحة للحالة الطبيعية للإنسان (البدائية)، التي قال بها فلاسفة مثل توماس هوبس وجان جاك روسو وماثيو أرنولد ثم اكتسبت الثقافة منذ أواخر القرن التاسع عشر، وحتى اليوم مفهوماً أنثروبولوجياً أعمق وأوسع يشمل جميع الظواهر البشرية السوية والإنتاج الشفهي والمادي من المعارف والعلوم والفنون والاعتقاد والسلوك والقيم والعادات والتقاليد ... إلخ، لتمثل الثقافة بذلك المعادل الوجداني والموضوعي لحراك الإنسان على الأرض وبالتالي الفارق الحضاري الحازم الصارم بين بوهيمية البشر وبين امتلاكهم الوعي والإحساس بكرامة وجودهم. إن دارسي الإنثروبولوجيا أو علم الاجتماع أو علم المصطلحات هم المعنيون بمهمة الحفر المعرفي لكيفية حدوث هذا "الإدماج" الشاذ، إن بإمكانهم أن يدلونا على البداية: كيف تم هذا؟ ومن فعلها؟ ومتى؟ وأين؟ وهل كان عن سوء نية وخبث قصد؟ أم كان مجرد تخبط في التعبير ورطها في استخدام شاذ لا يتفق ولا يتسق مع مناقبية معانيها فصار هذا الشذوذ، بعدئذ، قاعدة. إنها لمفارقة صارخة حقا أن يكون من يستحضرون الأنوار والسماحة والتقدم للبشرية مجبرين على التساوي بسبب هذا الدمج مع من يدفعون لجحيم العتمة واللعنة.. ألم تكتظ الأدبيات في الحديث عن: "ثقافة النازية" مثلا - فيما "جوبلز" وزير دعاية "هتلر" هو القائل: (إنني أتحسس مسدسي كلما سمعت كلمة ثقافة)؟! إنه "إدماج" شاذ مهما كانت البداية ومهما كان المصدر، ضرب "قيمة الثقافة" في الصميم قام بمسخها، بل بددها ب "النسبية" و"التبريرية" بحجة أنه لا أحد يملك الحقيقة.. وهذا صحيح .. لكن فقط حين تتموضع الحقيقة فيما يسعد الإنسان ويحقق له سلامه النفسي وعيشه الكريم لا حين تصبح شذوذا في القول أو الممارسة. إن هذا "الإدماج"، لم يبق للثقافة ذلك الرنين العذب ولا جاذبية الإغراء العفيف ولا الحافز الخلاق، بل أدى إلى أن تكون الحمولة الشعورية الإيجابية لكلمة ثقافة هابطة، كسيحة لا تقوى على شحن وجدان الإنسان واستنفار وعيه ولا على إشعال خياله وحماسه، فالارتياب استوطن الظنون لكثرة ما تم توظيف "ثقافة" قسرا لما هو مذل مهين لا يعود به إلا للهمجية التي ناضل آلاف السنين لكي يتحرر منها. الثقافة فيض نبع الرؤى الإنسانية في تجلياتها، وحومة القيم والمثل التي لا تنحاز إلا لرقي البشر وتحضرهم وكل ما هو نقيض ذلك فهو "اللاثقافة" في نزوعها المفرط لتسييد الترهات والأباطيل والخرافات أو الغرائز البدائية الهمجية، حتى وإن تدثرت بالناعم البراق .. وإنه لشاسع حاد هو التنافر بين "اللاثقافة": ذابحة الثقافة ومذبحتها وبين "الثقافة": ذخيرة إنسانية الإنسان!!