قبل يومين، وفي آخر زيارة لي برفقة مجموعة من سيدات جدة من المتابعات والمهتمات بما بعد كارثة سيول جدة، كانت لنا وقفة ميدانية في حي أم الخير المنكوب للمرة الثالثة من جراء كوارث الأمطار والسيول في مدينة جدة، وقفت ملياً أمام السد المنهار، أو ما كان يعرف بسد أم الخير. وقتها لا أدري لماذا تداعت إلى ذاكرتي صورة القندس، ذلك المخلوق العجيب الملقب بمهندس السدود. قد يكون السبب في تداعي الصور والأفكار هو المشهد المأساوي لسد أم الخير الذي انهار أمام قوة المياه قبل أسبوعين ليفضح ما خفي تحته وفوقه. وقد يكون خيالا جامحا يعود بي لسيرورة الطبيعة النقية والترتيب العفوي والحرص على الحياة الذي يجسده حيوان القندس دون أن تلوثه مظاهر الفساد أو عدم الكفاءة أو التحايل. وقد يكون أشياء أخرى كثيرة. إنهما صورتان متناقضتان تماماً في كل الجوانب. فسد أم الخير المنهار يفضح عواراً واضحاً خبأته السنون وجاء المطر ليفضح من خطط له ومن بناه ونفذه ومن بنى من أمامه ومن خلفه. سد أم الخير، بعد انهياره، أبان لنا أنه سد مزيف مبنى ومعنى. سد يتكون من طبقات من التراب والحصى تغطيها طبقة رقيقة من الأسمنت، أبانتها الصور الكبيرة وبالألوان التي نشرتها صحفنا المحلية. سد لا توجد فيه قناة لتصريف المياه سوى فتحة هشة سرعان ماغطتها مخلفات المطر من طمي وطين، وبقايا من أثاث الساكنين جرفتها الأمطار مع ما جرفت من آمالهم ومن راحتهم، ناهيك عن سلامتهم الشخصية. في المقابل فلنشاهد صورة للسد الذي يبنيه القندس لبيته. والقندس (beaver)، بالمناسبة هو حيوان مائي من فصيلة القوارض يعيش في كندا وفي غيرها من المناطق ذات البيئة المماثلة. يقول بعض العلماء إن في دماغ القندس برمجة خاصة تجعله يعرف الهندسة المائية المتقدمة جداً. ولحيوان القندس أسنان حادة لا تتوقف عن القضم وهو يستطيع أن يتسبب في قطع وسقوط أكثر من 200 شجرة سنويا. يهوى التزحلق فوق الجليد بدرجة كبيرة، وهي تسليته المفضلة. والتزحلق بالنسبة للقندس أيضاً وسيلة ناجحة للهروب من الحيوانات المتسكعة ذات النوايا السيئة. إن السدود التي يبنيها القندس هي مثال للاحترام الغريزي الذي أودعه الله في مخلوقاته للحياة وللطبيعة ونزعها الإنسان عن نفسه بصلف وعنجهية. يضع القندس صغاره خلف السد في وكر تحت الماء لكي يؤمن لهم حماية كافية يتعذر معها وصول أي حيوان مفترس إليهم. ولهذه الغاية يقوم القندس بتعويم الماء – أي رفع منسوبه – وذلك ببناء سدود لهذا الغرض. ويعتبر هذا الحيوان بحق مهندساً بارعاً وبنّاءً ماهراً في الوقت نفسه حيث ينشئ مسكنه بمهارة فائقة. وبذات المهارة الفطرية ينشئ سدّاً منيعاً أمام موئله ليحميه من تأثير الماء الجاري، وهو في ذلك يبذل جهداً خارقاً وعلى مدى مراحل متعددة لإنجاز هذا العمل المرهق. في المرحلة الأولى يقوم بتجميع كمّ هائل من أغصان الأشجار حيث يستخدمها في التغذية وفي بناء عشه والسد الذي أمامه، ولهذا يقوم هذا الحيوان بقرض الأشجار المتوفرة بأسنانه لقطعها وأثبتت الأبحاث العلمية أنه يقوم بحسابات دقيقة عند عملية القطع. ويفضل هذا الحيوان العمل على ضفة المياه التي تهب عليها الرياح وهكذا تقوم المياه بمساعدة هذا الحيوان في سحبه الأغصان التي يقطعها باتجاه مسكنه. يقوم القندس بقطع الأغصان الخضراء الكبيرة مستخدماً أسنانه الحادة ويضعها في شكل عرضي في مجرى الماء واضعاً غصناً إلى جنب غصن. فإذا قل جريان الماء وانخفض مستواه وضع القندس بواسطة ذيله شيئاً من الطين ساداً بذلك الفجوات بين الأغصان ليحكم انسداد السد. وبذلك يرتفع منسوب الماء بما يكفي لحماية صغاره من الحيوانات المفترسة. وإذا ازداد جريان الماء وكان المنسوب أعلى بما يشكل خطراً على أولاده يفتح ثغرات في ذلك السد حتى ينساب عبرها الماء فينخفض منسوبه إلى المستوى المطلوب. وكما للقندس أسنان حادة تساعده في قضم الأشجار وبناء بيته، نحن أيضاً لنا أسنان حادة لا تتوقف عن القضم في الأموال العامة دون هوادة. وبالرغم من قدرتنا على قطع ميزانيات من بلايين الريالات تخصصها الدولة لمشاريع البنى التحتية والخدمات العامة مقتطعة إياها من موارد الأجيال القادمة إلا أننا لا نقطع الشك باليقين ولا نبين المفسدين منا ولا نعاقبهم رغم كل ما ذقناه من مرارة الكوارث. وكما يهوى القندس التزحلق على الجليد، نحن أيضاً نهوى التزحلق فوق التصريحات التجميلية والمسكِّنة. وبالرغم من أننا ما زلنا نتسلى باختراع حلول وقتية نعرف مسبقاً بطلان جدواها، إلا أننا وعلى النقيض من القندس لم نعرف كيف نصنع أعشاشنا ولم نخلص في حماية أولادنا من الحيوانات المفترسة، ولم نسد الفجوات لنضمن القضاء على المتلاعبين والانتهازيين، ولم نعمل بصدق لنضمن إحكام السد من أمامنا ومن خلفنا. وإذا كان سلوك القندس في بناء عشه وسدوده هو مثال على العقلانية والتخطيط والحساب الدقيق في كل مرحلة من المراحل، وإن كان غريزياً بالطبع، فهل عجزنا نحن مع ما منحنا الله من عقل يفكر ويتأمل عن امتلاك هذه الصفات؟ أما آن الوقت لنضع حداً للفساد والجشع وغياب المساءلة؟