الإعلام في الدول العربية متشنج جدا هذه الأيام، والشباب العربي مشغول بتأييد فريق إعلامي أو تأديب فريق آخر، والكل يسير على قاعدة إن لم تكن معي فأنت ضدي، ومن وسائل التحريض المؤدبة: تسفيه الرأي أو مهاجمته بألفاظ لا تليق أو اتهام صاحبه في أخلاقه ومبادئه، إن وجدت، والمشكلة الأكبر في حماس الشباب لأفكار وتصرفات لا يعرفون نتائجها، أو من يحتمل أن يقف خلفها، أو قد لا يفكرون فيما قد يأتي بعدها من الأساس، وبصراحة الإعلام الذي يغير وجهة نظره أو موقفه ليكسب جماهيرية لا يستحق الاحترام، وليس مطلوبا من كاتب هذه السطور أو من غيره، أن يتلون ويميل مع الريح كما قال الشافعي في أحد أبياته، أو يستثمر في أوجاع الآخرين، لإرضاء مجموعة صغيرة أو ربما مستفيدة من الناس، والاختلاف لا يعني دائما أن الطرف المقابل على خطأ أو أن موقفه غير سليم، ولكنها الأخلاق العربية المطاطة وتفسيراتها المتحاملة في أوقات الأزمات، وقد اتضح لي بالدليل أن العرب يصدقون ما يريدون وفي الوقت الذي يختارونه، وإلا كيف يمكن تفسير التشكيك في مصداقية «ويكيليكس» لأنها سربت وثائق نشرت أخيرا في صحيفة محترمة ومستقلة ك «الغارديان» البريطانية، وهم من كان يقبل بما ينشر دون مناقشة، ولدرجة أن بعضهم اجتهد في إصدار نسخ محلية مشابهة لها. الأخلاقيات في الصحافة من أي جنسية بما فيها الإعلام الجديد، أقرب ما تكون في خطوطها العريضة لرؤية إيمانويل كانط حول الواجب الأخلاقي، والمفروض أن تقف على المقدمات قبل أن تقفز إلى النتائج، وأعرف أن الكلام السابق يدخل في باب توضيح الواضحات، إلا أنه غائب تماما عن دورة العمل اليومي في الإعلام العربي بكافة أشكاله، وعلى سبيل المثال، الأخلاق الصحافية في الإخباريات العربية لا تحضر إلا نادرا، ولا يوجد في تغطياتها «حياد» بالمعنى المهني للكلمة، وأفهم أن الشخص يصعب عليه أن يكون محايدا في موضوع يخصه، تماما كما هو الحال في رفض شهادة الأقارب لصالح المتهم، أو في إعفاء القاضي من النظر في قضية له علاقة بأطرافها أو لأنه طرف أصيل فيها، والإعلام ينبغي أن يأخذ بهذه القاعدة الذهبية أو يضعها في باله، على الأقل حتى يقنع المتابعين بسلامة نواياه. أقول هذا لأن بعض الفضائيات تحاول حاليا الموازنة بين الأضداد، أو بين التزامات المهنة وبين الجمهور والملاك، وبشرط أن لا يتعارض ماسبق مع التوجهات والمصالح الاقتصادية والسياسية لملاك المؤسسات الإعلامية، أو رغباتهم في خفض الإنفاق أو رفعه ولو على حساب الحقيقة والصالح العربي العام، وهناك إصرار عجيب في نشرات الأخبار العربية على الدقة والمصداقية والنزاهة، وعلى التقديم العادل لأطراف المادة أو القضية المطروحة، وهو إصرار تنظيري فقط، والإثبات ما نشاهده على الشاشات العربية وتعاملها غير الموفق مع الأحداث في مصر وتوقعاتها المستقبلية، وشحنها المتهور للشارع والرأي العام والتأثير السلبي فيه، وبطريقة لا تختلف عن ما قامت به مكاتب العلاقات ودوائر الإعلام الغربية، الرسمية منها وغير الرسمية، في مجالات الدعاية والتسويق للمواقف المنحازة، وخصوصا في حالات الحروب، وآخرها الحرب الإسرائيلية على غزة. تقديم السياسة في قوالب شعبية صارخة ومستفزة، أسلوب تميزت به صحافة التابلويد البريطانية، في حملتها الإعلامية ضد العدوان الثلاثي سنة 1956 أو ما يعرف في إنجلترا بحرب السويس، والتسمية سببها أن الحرب كانت بعد تأميم قناة السويس وفك الاحتكار الإنجليزي، والمقصود بالشعبية هنا اللعب على الألفاظ العامية واللغة السهلة البسيطة والعبارات التلقائية، والصحافة سارت على نفس الخط في حرب العراق سنة 2003، وهذا الدور يقوم به اليوم شريحة من الشباب العربي في مواقع الإعلام الاجتماعي، وهم نجحوا نسبيا في تونس ويأملون في تكرر هذا النجاح، ولو بالتلفيق، في مصر ومجموعة من الدول العربية، وكأنها لعبة «نانتيندو» أو «إكس بوكس» في حرب 1956 طالبت الحملة الإعلامية في بريطانيا، رئيس الوزراء البريطاني أنتوني أيدن بالاستقالة، ولم تتوقف إلا باستقالته، وفي العراق لم تنجح حملة مقاربة لها في تحريك توني بلير من كرسيه رغم اتهامها له بالإمبريالية والكذب، وكان أن تنازل عن الكرسي بالاستقالة من باب خدمة مصالح حزب العمال، وبعد فضائح وتجاوزات وقعت داخل بريطانيا ولم تقع خارجها، ومن ثم شغل مباشرة منصب المبعوث الخاص للجنة الرباعية الدولية الخاصة بالسلام في الشرق الأوسط، وهو يفكر في ترشيح نفسه لرئاسة الاتحاد الأوروبي في دورته القادمة، وإذا كانت الأمور تدار بهذا الأسلوب في دولة الديموقراطية الأولى، هل يجوز أن نتوقع شيئا من مجتمعات عربية لم تستفد من حضورها الأمريكي المؤثر والمتفوق على اليهود، في تكوين جماعة ضغط أو خدمة مصلحة عربية واحدة، باستثناء المبادرات المنفردة والخجولة لبعض الأسماء العربية الأمريكية. صحافة التابلويد، كما قرأت، لا يتحرك ضميرها الاجتماعي كثيرا، ولا أعتقد أن الإعلام الاجتماعي يبتعد عنها، ومن تهم المثقفين الموجهة لها في بريطانيا: اهتمامها بعوائد التوزيع والإعلان، وتركيزها على السخرية والإثارة، وأن المصداقية والأمانة في نقل الخبر لا تشكل أولوية في ممارساتها، وأنها تحاول بناء عقد اجتماعي يقوم على المنفعة المادية أو التجارية الخالصة أولا، والصحافة الشعبية في بريطانيا، ومثلها أحيانا إصدارات صحافية جادة ومرموقة، لا تهتم بالسياسة الدولية ما لم تتقاطع مع مصالحها، وردود أفعالها غالبا ليست عادلة أو طبيعية وإنما انتهازية، وقال مايكل بروملي وستيفن كوشين في كتابهما: تطرف الإعلام (2000) إن المواقف السياسية غير المعتادة لأي مطبوعة بريطانية، قد تكون أحيانا مجرد فاصل إعلاني أو «تمثيلية» للفوز بحصة أكبر من كعكة المنافسة على سوق القراء أو لإشباع رغبات مصلحية خاصة، وأكدا بأنه سلوك يحكم تصرفات شارع الصحافة أو «فليت ستريت» منذ ما يقرب من مئة عام، والشارع أصبح أثرا بعد عين، فقد تركته معظم الدور الصحافية، وما ذكر ينطبق بدرجة أو بأخرى، على المنافسة والتودد الإلكتروني الجديد، لاستمالة وشحن المعجبين والمتابعين الصغار على «الفيسبوك» و«تويتر» وغيرهما.