أدى تعليم المرأة في المملكة إلى تغيير بنيوي هائل في مجتمعنا. ومن أهم مظاهر هذا التغيير أن المرأة، طوال حياتها، لم تعد حبيسة البيت. فقد صارت تخرج منه، منذ السادسة من عمرها، إلى الالتحاق بالدراسة بمراحلها المتعددة، ثم بالجامعة، وبعد ذلك إلى العمل. ويختلف هذا الوضع جذريا عن وضعها في العصور السابقة؛ فقد كان خروجها محدودا، إذ لم تكن تخرج، إن خرجت، إلا إلى أماكن قريبة من بيتها كالسوق القريب، أو إلى مزرعة أبيها أو زوجها، أو للاحتطاب، أو الرعي، أو لزيارة أقاربها أو جيرانها. ولم تكن تحتاج تقريبا إلى مساعدة أحد من أقاربها لقطع تلك المسافات القصيرة. وكانت البيئة التي تتحرك فيها متجانسة لا يكاد يوجد غريب من الرجال فيها، ولا يخشى عليها، وهو ما يمنع عنها الأخطار المحتملة. ولا تمثل المسافات التي تقطعها البنات في المرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية إلى مدارسهن، في وضعنا الجديد، مشكلة لقربها النسبي. ويمكن للأب أو الأخ أن يوصلهن إلى مدارسهن، وقلما يؤثر ذلك على التزامه بعمله. وتبدأ المشكلة مع المرحلة الجامعية؛ فيمكن أن تكون الجامعة بعيدة عن المنزل مما يضطر الأب أو الأخ إلى قطع مسافة طويلة ذهابا وعودة. وربما لا تتوافق مواعيد الدراسة في الجامعة مع التزامات الأب أو الأخ، وربما تعددت البنات أو الأخوات وتعددت جامعاتهن أو كلياتهن ومواعيد حضورهن وانصرافهن تبعا لذلك، وربما تباعدت تلك الجامعات والكليات مكانا. وبعد أن تتخرج البنات من الجامعة يلتحقن بالعمل الذي ربما تتعدد أماكنه بتعدد البنات. ولتأخر سن زواج البنات تستمر هذه المسؤولية لسنوات على كاهل الأب أو الأخ. وإذا تزوجن ينتقل العبء إلى الزوج وتستأنف الدورة نفسها من جديد. ومما يضاعف هذه الأعباء الثقيلة على الأزواج والآباء، الآن، اتساع المدن وازدحام الشوارع مما يستهلك قدرا كبيرا من الجهد ويستنزف قدرا أكبر من الأوقات. ويعود قدر كبير من الأزمات الأسرية والنفسية والاجتماعية التي يعاني منها الناس الآن، ولا يملون من الشكوى منها، إلى هذه العوامل: فالزوج أو الأب ليس آلة صماء صالحة للعمل في كل وقت؛ فهو إنسان محدود الطاقات الجسدية والفكرية، ويحتاج إلى الراحة والترفيه عن نفسه. ولا يمكن أن يكون كذلك إن كان مضطرا للجمع بين العمل في وظيفته ثم العمل الإضافي سائقا لتوصيل الأبناء والبنات والزوجة. ونتيجة لتعارض المتطلبات بينه وبين بناته وزوجه تبدأ المشكلات بينهم ويظل كل واحد منهم مهموما غاضبا ثائرا على الآخرين. وتزداد هذه المشكلات سوءا مع كثرة الأبناء والبنات وتقدُّم الزوج أو الأب في السن وتكاثر الشواغل. ومن البيِّن أننا لم نستعد للتعامل مع هذه التغيرات الكبرى. وكان بالإمكان الاستعداد لها بتأسيس أنظمة نقل كفؤة، وبناء مدننا بطرق هندسية تجعل أنظمة النقل مقبولة ومريحة وتصل إلى نقاط يكون وصول الناس لها ممكنا، لكننا لم نفعل شيئا من ذلك. ومن هنا أدى تعليم المرأة، أكثر من غيره من المتغيرات، إلى نقل مجتمعنا إلى طور جديد لا يتشابه مع مجتمعنا البسيط السابق. وبدلا من البحث عن طرق مبتكرة للتعامل مع هذا الوضع الجديد ومعالجة التجاذب بين متطلباتنا المتعارضة أصررنا على أن نتعامل معه، في الجانب الاجتماعي، بالطرق التقليدية التي جعلت تعليم المرأة مصدرا للأزمات. فقد سمحنا لها بالخروج للتعلم والعمل، لكننا أبقينا على أفكار الوضع السابق التي تقيدها وتحد من حركتها. ولما عجزنا عن التضحية بأي من هذه المتطلبات المتعارضة عجزنا كذلك عن إبداع الوسائل التي تخفف من آثارها. ولا يستطيع أحد الآن أن يقترح إيقاف تعليم البنات، أو عدم عمل المرأة بسبب هذه المشكلات التي كانت نتيجة لتعليمها في المقام الأول. كما أننا لم نبدع وسائل عملية للتعامل مع هذه المشكلات. ومن هذه أن تشارك المرأة، التي كانت السبب في إيجادها، في تخفيف العبء عن الأب والأخ والزوج، وحمل جزء من مهمة توصيل الأبناء والبنات إلى المدارس، والوصول بنفسها إلى كليتها أو عملها. ومع أن "المجتمع" يُتَّهم دائما بأنه هو الذي يقف ضد قيادة المرأة للسيارة، إلا أن الرأي الفقهي المتشبث بقاعدة "سد الذرائع" هو الذي أسس لمنعها، وغرس في أذهان الناس حرمة هذا البديل. فقد استخدمت هذه القاعدة في التهويل من مصائب ربما لا تقع، كالتخويف المرَضي من تبرج المرأة واختلاطها بالرجال، وخروجها على ولاية الرجل، والتمرد على سلطته، بل الجرأة على الادعاء بأن المرأة مفطورة على الانحراف، ولا يمنعها من ذلك إلا رقابة الرجل، إلى غير ذلك من تهويلات صارت كأنها حقائق يَحتج بها المانعون الأصليون والأتباع. ولا يتنبه هؤلاء إلى أن إمكان وقوع شيء من هذه المحذورات المخيفة أمر من أمور الغيب ولا يمكن الجزم بوقوعها، ويمكن معالجتها بسن أنظمة تمنع وقوعها أو تخفف من آثارها. وقد اخترعت "العبقرية" السعودية في الثلاثين سنة الماضية، بعد أن استفحل الوضع، بديلا غريبا لمعالجة هذه الأزمة الخانقة. وتمثل هذا البديل في استقدام سائقين لمساعدة الرجل في توصيل زوجه وبناته إلى مدارسهن وجامعاتهن وأعمالهن وتسوقهن. وقد كتب الكثير عن مساوئ هذا البديل، لكن المانعين لقيادة المرأة للسيارة لا يشعرون بشكل مباشر إلى أن هذا البديل يخالف أمرا معلوما من الدين بالضرورة. فهم يحرمون قيادة المرأة للسيارة بحجة "الاختلاط" الذي لا يتفق معظم علماء المسلمين على حرمته، لكنهم يجيزون استخدام السائق الذي يمثل وجوده في السيارة مع المرأة صورة من صور "الخلوة" يتفق المسلمون جميعا على حرمتها. وقد بين ذلك الشيخ الدكتور عبد الكريم الخضير، عضو هيئة كبار العلماء، في جوابه عن إن كان وجود السائق مع المرأة في السيارة "داخل المدن" يعد "خلوة غير شرعية"، قائلا: "نعم، إذا لم يوجد ثالث فالثالث الشيطان؛ لأن إغلاق الأبواب، وتظليل الزجاج، والتمكن من الحديث بينهما لا شك أن مثل هذا فيه فرصة كبيرة لدخول الشيطان بينهما. وكم من مصيبة حصلت بسبب هذا" (مجلة الدعوة، 3/1/1432ه). والسؤال هو: ما دام أن المؤسسات الدينية تعرف أن هذا البديل محرم، فلماذا لا تقف بحزم أمام هذه المخالفة "المتحققة" وتمنعها؟ ولماذا لم تقم بواجبها في الترجيح بين البديلين لتضمن منع أسوئهما بإجازة أقلهما سوءا؟ والواضح أنها لا تستطيع ذلك، لأنها هي السبب الذي أوقع الناس في هذه المخالفة الشرعية الواضحة بحجة منع "الاختلاط" الذي تتفرد هذه المؤسسات بمفهومها عنه، مع أن أيا من صور هذا المفهوم المحرمة لا تتحقق بقيادة المرأة للسيارة.