يمكننا وصف الإنسان بأنه ذلك الكائن الذي يظل مدى عمره متنقلاً بين الحقيقة والوهم، والعلم والخرافة، والجزم والشك. إنه لا يرى إلاّ جزءاً من الواقع، ويجد نفسه باستمرار مفتقراً إلى المزيد من المعرفة التي تساعده على رؤية الأشياء على ما هي عليه. تملك عقولنا إمكانات وقدرات مذهلة، لكنها تعاني من نوع من الارتباك في التعامل مع المبادئ الكبرى، وفهم طبائع الأشياء، واستيعاب المدلولات العميقة للمعارف الحديثة ... عملية التفكير تشبه عملية السقاية لنبتة عزيزة، فكما أن الماء ينفع تلك النبتة فإنه يتسبب في ترعرع الأعشاب الضارّة من حولها، وهكذا فنحن إذ نفكر ننمي أدمغتنا فزيولوجياً، ونصقل مفاهيمنا، ونجعلها أكثر وضوحاً... وإلى جانب هذا فإن عقولنا حين تفكر تولّد الكثير من الأفكار والمفاهيم الخاطئة بل القاتلة، وهي أشكال وأنواع، لكن أكثرها خطورة تلك التي تتعلق ب (الأطر العامة) أو المرجعيات الكبرى التي ينطلق منها العقل، ويستند إليها خلال عمليات التفكير؛ إذ إن الإطار حين يكون خاطئاً، فإن حركة العقل تشبه حركة مسافر يرغب في السفر إلى مراكش، فركب طائرة ذاهبة إلى جاكرتا. ولعلي أتحدث حديثاً مقتضباً حول هذه النقطة عبر المفردات الآتية: 1 فطر الخالق عز وجل العقل على الاحتياج إلى أمرين أساسيين: الأول: أنه لا يستطيع أن يعمل من غير أدوات، وهو في ذلك يشبه الحداد والنجار والمزارع وكل أصحاب المهن، وأدوات العقل هي التعريفات والأفكار والمفاهيم والمعلومات.... الثاني: الإطار المرجعي حيث إن العقل يحتاج إلى من يوجّهه إلى الحقل المناسب للعمل، ومن يضيء له ذلك الحقل ببعض المسلَّمات والمعطيات. هذا هو واقع الحال، لكن الساحة الثقافية لا تعدم باستمرار من يدّعي أنه يفكر تفكيراً حراً من غير تحيّز أو استناد إلى أي مرجعية أو فلسفة كبرى، وهذا غير صحيح. 2- الأطر المرجعية أطر كبرى، وأطر صغرى، والفاصل بينهما ذو وسط متدرج؛ فقد أنظر إلى إطار على أنه كبير، وتنظر أنت إليه على أنه صغير. من الأطر الكبيرة -على سبيل المثال- ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه من أنه عبد الله ورسوله، وما ذكره عنه القرآن الكريم حين أمره الله تعالى بأن يقول: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ...) فهو واحد من بني البشر وواحد من عبيد الله، وواحد من الرسل، ويتدرّج في داخل هذا الإطار عشرات الأطر الصغيرة. ومن الأطر الكبرى كذلك إطار الإيمان بالله، واليوم الآخر، وإطار محدوديّة الحياة الدنيا ... أما الأطر الصغرى، فهي تستعصي على الحصر، ومن أمثلتها اعتقاد مدرس بأن أسلوبه في التدريس هو الأفضل، أو أن أرباب العمل جميعاً يتآمرون ضده، واعتقاد طالب بأنه لا أمل في النجاح في هذا العام ... 3- مسألة بناء الأطر الكبرى هي أعقد المسائل التي واجهها العقل البشري عبر التاريخ، وقد بذل علماء أهل السنة والجماعة جهوداً هائلة من أجل اكتشاف الأصول والقواعد التي تساعد على بناء الأطر، ولعل أهم ما يشغلهم في هذا هو التفريق بين القطعيّات والظنيّات، أي بين ما يشكِّل أصلاً غير قابل للنقاش، وبالتالي فإن على العقل أن يعمل على فلسفته وتوضيحه وتوظيفه والتفريع عليه، وذلك مثل ما أطلق عليه السابقون وصف (المعلوم من الدين بالضرورة)، ومثل ما سمّوه ب (الكليات الخمس) ... وبين ما هو من قبيل الفروع والجزئيات التي تقبل الاختلاف والجدل، ولا يترتب على النزاع فيها شقاق فكري أو انقسام اجتماعي، وقد وُفِّقوا في ذلك إلى حد بعيد؛ فقد وضعوا الأساس لرؤية حافظت على نقاء الدين ووحدة الأمة، مع قدر حسن من التعدّدية والتنوّع. في المقال القادم سأذكر بإذن الله تعالى أمثلة للأطر الموهومة ذات الآثار الخطيرة.