ظهر في مقطع على اليوتيوب شاب سعودي يعزف على العود ببراعة لا يمكن أن تخطئها أذن السامع، وهذا ليس بالمستغرب من شاب موهوب؛ ولكن المستغرب في مسألة شابنا هذا أنه ظهر وهو يعزف متلثماً. والسبب في ذلك بسيط وهو أنه يؤمن بأنه يقترف عملا محرما! وجمعتني جلسة مع شاب يعمل مصوراً في إحدى محطاتنا التلفزيونية الحكومية، ومن خلال حديثي معه، عرفت أنه بارع في عمله، حيث وزارة الإعلام طلبت نقله لموقع أفضل من موقعه، ورفض عرض الوزارة. ولما سألته لماذا رفض العرض المغري، أجابني بإجابة غير مقنعة. ولكن وقبل أن تنفض جلستنا، أتاني سبب رفضه الأكيد، وذلك عندما داعبه صديق له، بقوله: "لعن الله المصورين ..." فتغير وجه الشاب وكف يده عن الأكل وقال: "ادعو لي بأن يرزقني الله مصدر كسب حلال"! ودخلت في نقاش مع شاب ثالث، عندما بدأ يسخر وبأقذع الألفاظ من علماء إحدى الدول العربية، وذلك لكونهم يعتبرون غناء أم كلثوم حلالا. وعندما سألته ألا تستمع أنت للأغاني؟ فأجابني بنعم؛ ولكنني أفعل ذلك وأنا أعرف بأنني ضال، وأرجو من الله هدايتي"!. وأخطر جدال يمكن أن تدخل فيه مع شاب، وحتى لو كان شبه أمي إن لم يكن أميا بالكامل في أمور الفرق الإسلامية، عندما تحاول إفهامه بأن إخواننا الشيعة هم مسلمون مثلنا، يختلفون معنا مذهبياً، في بعض التفاصيل، أما الثوابت الدينية فهي واحدة بيننا وبينهم. وسرعان ما سينهال عليك بأحداث تاريخية مغلوطة، ليثبت لك أن الشيعة أخطر على الإسلام والمسلمين، من الصهاينة. أو ادخل في جدال معه في قضية عمل المرأة وقيادتها للسيارة، فسرعان ما يحمر وجهه، ويتهمك، بدون أي تفكير أو تردد، بأنك تغريبي وعلماني وماسوني، تتآمر على الإسلام والمسلمين، مع أعداء الأمة لتفكيكها من الداخل. وقس على ذلك باقي المواضيع الاجتماعية التي هي لا تعدو كونها أمورا اجتماعية، لا دخل للدين بها لا من بعيد أو قريب؛ ولكن خطابنا الديني يأبى إلا أن يحشر نفسه في كل شاردة وواردة في حركات الناس وسكناتهم وكافة مناشط حياتهم، ويصر بأن يكون له قول فيها. إذاً فخطابنا الديني المولع بالتحريم والتخويف من المؤامرات الداخلية والخارجية علينا، والذي يتكرر في المدرسة والشريط الإسلامي والكتيبات وبعض الندوات والمحاضرات الدينية وخطب الجمع، خلق داخل شبابنا هلعا وتناقضا وإحساسا بالغربة وعقد الذنب والصراع الداخلي الرهيب. مما جعلهم لقمة سائغة لكل من عزف وطنطن على عظم ذنوبهم وخطاياهم، ومنحهم الفرصة السانحة للتكفير عنها، وحماية الدين والمجتمع المسلم منها، والفوز بالجنة والشفاعة لوالديهم، ولو عن طريق ارتداء حزام ناسف. خطابنا الديني يطرح نفسه بأنه الأجدر والأجدى في مجابهة الفكر المتطرف والإرهاب، كونه يتمثل الوسطية أكثر من غيره. ومع تواجده المكثف في حياة الناس من خلال مئة ألف خطبة جمعة في الأسبوع، وأكثر من خمسين ألف داع وداعية يقيمون في العام الواحد مليوني منشط دعوي. ولدينا عشر كليات للشريعة وأصول الدين تضم عشرات الآلاف من الدعاة وطلبة العلم. ويبث في فضائنا حوالي 47 قناة فضائية دينية ليل نهار. ويدرس الطالب لدينا عشرين حصة دين في الأسبوع، ووفرت لهم عشرات الآلاف من حلقات تحفيظ القرآن والسنة النبوية. وكلها من المفترض أن تكون موجهة للشباب وحمايتهم من الفكر الضال، إلا أن رجال أمننا البواسل دوماً يفاجئوننا بين الفينة والأخرى بتفكيك عشرات الخلايا الإرهابية، التي تضم مئات الشباب اليافعين مدججين بشتى أنواع الأسلحة ومدعومين بملايين الريالات، ومخبئين بأوكار سرية في جميع مناطق المملكة. والسؤال الذي يطرح نفسه علينا هنا وبإلحاح: هل خطابنا الديني، الحاضر وبكثافة بين الشباب، هو جزء من الحل، كما نعتقده ونتمناه، أم هو من غير قصد منا ومنه يشكل جزءا من المشكلة؟ الذي أستطيع أن أجيب عنه هو، أن أي خطاب ديني أو اجتماعي هو كقمة الجبل الثلجي داخل المحيطات، له قاعدة وقمة. نحن دوماً نرى القمة منه، حيث هي تطفو فوق سطح المحيط، ولكن لا نرى منه القاعدة، القابعة في أعماق المحيط. وقد نشتكي من قمة الخطاب الإرهابي ولكن، قد نكون ممن هم فاعلون في بناء قاعدته، أو داعمون لبناتها ولو بالتغاضي عن تكومها. ودوماً القمم مهما علت وارتفعت، ما هي إلا تكومات من صغائر الأمور التي عادةً لا نلقي لها بالاً أو اعتباراً يذكر، نتركها تزدحم مع بعضها البعض لتكون قاعدة صلبة وصلدة، لخلق قمة تعبر عنها خير تعبير. حيث إن الإرهابي لا يأتي بجديد، ولكنه يدفع الموجود والمتداول لديه لأقصى مداه. خذ مثالاً على ذلك، بأن يفتي فقيه تقليدي بتحريم، عمل مباح خشية أن يقع فاعله بالمحظور، وخاصة إذا أتى سؤال المستفتي ملغماً بالمحظورات. ثم يدفع بالمسألة بعده فقيه متشدد فيكفر فاعلها. وهنا يلتقطها المنظر الإرهابي، ليدحرجها على المجتمع كرة نار ملتهبة، وقودها نحن ومن أقنع من شباب، بوجوب إقامة القصاص على الكفار، حيث لا حكومة إسلامية متوفرة لتفعل ذلك، وعليه يتم إعلان الجهاد على الحكومة والمجتمع. وهكذا فكلما ازداد التحريم وتهويل المؤامرات، تضخمت ترسانة الإرهابيين العقدية والأيديولوجية، وكثر على أثرها مجندوهم وعظم تخريبهم وتدميرهم. لا أحد يطالب الفقيه بتحليل ما حرم بالضرورة في الإسلام؛ ولكن عدم توسيع رقعة المحرم، بإضافة ما لم يحرم بنص قطعي أو اختلف فيه علماء الإسلام ومذاهبهم. إذاً فلن يتسنى تفكيك قمة أي خطاب، إلا من خلال خلخلة وتفكيك جزئيات قاعدته، ثم إزالتها، حينها ستهوي قمته أوتوماتيكياً. أما محاولة هدم الخطاب من خلال هدم قمته، فلن يجدي نفعاً. حيث القاعدة ستعيد تشكيل قمتها مرة أخرى، وبنائها بصلابة وصلادة أقوى من ذي قبل. كما أن تفكيك جزئيات القاعدة، يتطلب إحلال جزئيات أخرى بديلة لها، فالهدم لا يكون إلا بداية لمشروع تشييد بناء جديد، ولا يمكن أن يكون عملية تبديل وجوه وجلود. فجزيئات قاعدة أي خطاب، مراوغة ولا تعكس بالضرورة حجمها الطبيعي ومتانتها وقوة تغلغلها في وعي ولاوعي من يعبر عنهم الخطاب. وهنا ندخل في إشكالية إدراكنا لما ندركه وعياً وما لا ندركه لاوعياً. حيث لا تكتمل عملية النضج في الوعي، إلا من خلال تصالح الوعي مع اللاوعي عند الإنسان. فقد نعبر عن مفاهيم إنسانية ونبشر بها، ولكن لاوعياً نمارس عكسها. حيث النضج الحضاري يتطلب تصالحا واضحاً وجلياً بين وعي الإنسان ولاوعيه، أي لا يعيش تناقضاً أو صراعا في داخله، فيصاب بمرض انفصام الشخصية ومن ثم تصارع الشخصيات داخل ذاته الواحدة. ولا يتسنى إعداد وخلق الشخصية الناضجة السوية، المتصالحة مع نفسها وعياً ولاوعياً إلا عن طريق طرح خطاب ديني واجتماعي لا يتناقض أو يتصادم مع واقعه ومحيطه لا من ناحية التنظير ولا الممارسة ولا حتى الأنظمة المعمول بها. "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ..".