لم يشر البيان السعودي بدعوة خادم الحرمين الملك عبدالله لمؤتمر التضامن الإسلامي في نهاية رمضان الجاري، إلى دعوة «التضامن الإسلامي» التي نشطت في الستينات الميلادية أو إلى مؤسسها المغفور له الملك فيصل، ولكن الإعلان عنها استدعى على الفور صورةَ مؤسسها وذكرياتها وأدبياتها. من الصعب أن تجد تعريفاً لحركة التضامن الإسلامي يشرحها أفضل من اسمها المباشر، ولعل ذلك سر قوتها وقتذاك وسر قوتها اليوم، لو اتبع النهج نفسه، إنها دعوة للتضامن بين المسلمين، بغض النظر عن مذاهبهم وأعراقهم، مسلمون وكفى، عبارة راجت في تلك الفترة واستخدمت عنواناً لبرنامج في الإذاعة السعودية. كانت حركةً لمواجهة الشيوعية، التي نشطت يومها وتمددت بالثورات والانقلابات، وكانت اختيار «التغيير» للشباب، بما في ذلك العرب والمسلمون. ودخلت الحركة مع الشيوعية في معركة شرسة، ذلك أنه ما كانت ثمة نقطة لقاء بين الإسلام والشيوعية، التي تحمل موقفاً مبدئياً معادياً للأديان. وكانت حركةً لمواجهة «القومية العربية» التي قُدمت «بديلاً» للإسلام، ولكنها لم تكن ضد الانتماء القومي المتكامل معه. كان الفيصل يفخر بانتمائه العربي ولكن يقدم عليه اعتزازه بالإسلام، فشكّل بذلك تياراً عروبياً إسلامياً نجح في خلق توازن خفف من غلو التعصب القومي، الخطاب الرائج وقتذاك للقوى التقدمية العربية. كانت حركةً للدفاع عن الإسلام، الذي استهدفته وقيمه ومرجعيته هجمة شرسة، حين انقسم العرب بين معسكرين: «الرجعية» و «التقدمية»، وكان الإسلام والداعون له يوضعون في خانة الرجعية. واشتدت حملة منظمة لتهميش المؤسسات الدينية التقليدية ودور الإفتاء والمرجعيات، ولتحويل رجالها مجرد «ديكور» يحيط بالزعيم، ضمن العمال والفلاحين والمثقفين والفنانين المؤيدين له ولسياساته. يومَها، كانت الحركة الإسلامية معتقلة، بل تحت السياط والتعذيب، وأصبح إعدام الفقهاء وكبار العلماء مسألة لا ينتفض لها أحد. لا يُتخيل اليوم أن يقاد إلى ساحة الإعدام فقيه دستوري كعبدالقادر عودة، أو مفكر كسيد قطب، أو عالم دين كعبدالعزيز البدري من دون أن تنتفض القاهرة وبغداد، ولكن ذلك حصل في الستينات. من نجا منهم أصبح لاجئاً، فاراً بدينه ودعوته، فوجدوا في دعوة التضامن الإسلامي على رغم «عباءتها الواسعة» مكاناً لهم. احتضنتهم الدعوة فتحالفوا معها، ونشطوا في مؤسساتها. في ذلك الوقت، لم يكن الإسلاميون يختلفون مع غيرهم حول «المادة الثانية» من الدستور أو جملة «الشريعة أساس» أو «الأساس لأنظمة البلاد»، ففي ذلك الوقت كان الدفاع عن الإسلام ذاته هو المهمة الأولى. ومع ضعف الشعور الإسلامي في الشارع، كان منافياً للحداثة أن تكون متديناً، خصوصاً في أوساط الشباب. أتذكر شاباً في الحي الذي نشأت فيه اشتُهر لمواظبته على الصلاة في المسجد. نعم، اشتُهر بيننا لأنه كان فقط يواظب على الصلاة في أوقاتها، وهذا في المدينةالمنورة، فما بالك بحال الشباب في جامعة القاهرة أو دمشق في تلك الحقبة؟ اليوم تعود حركة التضامن الإسلامي إلى عالم إسلامي مختلف تماماً عما تركته عام 1975 مع رحيل صاحبها الملك فيصل. سقطت الشيوعية، وتراجع اليسار العربي، حتى فكرياً، وكذلك القومية العربية، التي تصالحت مع الإسلام، الذي عاد عزيزاً مُهاباً من جديد، وانتشر التدين، ليس فقط سياسياً بل شعبياً وعلى نطاق واسع، وانتصر حلفاء التضامن القدامى، ذوو الإسلام السياسي، ووصلوا إلى الحكم... ولكن الحركة تواجه تحديين جديدين لم يكونا في زمن انطلاقتها: الانقسام الطائفي الحاد الذي أصاب الأمة، والعولمة بأفكارها وتقنياتها وأنظمتها الأممية. التحدي الثاني، أي العولمة، أسهل من الأول، على رغم أنها الأهم على المدى البعيد، فهي التحدي الحضاري للإسلام الذي نقول إنه صالح لكل زمان ومكان -كان هذا أيضاً أحد أشهر شعارات تلك المرحلة-. الصراع هنا فكري، ويُحسم بقدرة الإسلام على النجاح في الحكم، النجاح وفق معايير العولمة وتوفير الحرية والعدالة والمساواة، والرخاء أيضاً. هذه مسؤولية الإسلام السياسي، الذي وضع الإسلامَ كله الآن في موقع التحدي بوصوله للسلطة. أما الانقسام الطائفي، فهو الحالة العاجلة التي يستعر لظاها الآن في تداعيات الثورة السورية، التي رفضت أن تكون طائفية، ولكن نتائجه ستؤثر بشكل كبير على الحالة الطائفية في المنطقة. ذهب البعض الى القول إن إطلاق حركة التضامن الإسلامي من جديد هو في إطار ذلك الصراع الطائفي السني-الشيعي، وإنها تأتي قبل قمة عدم الانحياز المقررة في طهران بعد نحو 10 أيام من قمة مكة. بعض من ذلك صحيح، ولكن المستهدف ليس إيران أو الشيعة، وإنما الطائفية. بالتأكيد ستدعو المملكة الرئيس الإيراني للقمة، ولا أستبعد أن يدخل الملك الحرمَ مرة أخرى ممسكاً بيد أحمدي نجاد من جهة والرئيس المصري الجديد محمد مرسي أو رئيس الوزراء التركي أردوغان باليد الأخرى، مثلما فعل قبل بضعة أعوام في قمة إسلامية، ليرسل رسالة واضحة للعالم الإسلامي. الظروف مواتية لمصالحة «طائفية»، فالنظام السوري «الطائفي» يترنح، وهو الذي فتح شهية «الطائفيين» في طهران لمغامراتهم المتعارضة مع التاريخ. كان الامتداد الطائفي الإيراني إلى سورية، قلبِ العالم العربي والإسلامي السني، خطأً تاريخياً يجري تصحيحه الآن. إدراك إيران هذه الخسارة وانعكاسها على داخلها، قد يشجع القوى المعتدلة فيها على اتخاذ القرار التاريخي و «تجرع السم» مرة أخرى والعودة إلى الداخل، إلى محيطها الطبيعي، ودولتها المهددة هي الأخرى. مفهوم «التضامن» لا يقول بعلو المنتصر وإذلال المنهزم، بل باحتضانه ومداراته وتسهيل عودته إلى عباءة التضامن الواسعة. لن يكون ذلك سهلاً، فربيع العرب لم ينهِ فصولَه بعد، وتحولات ما بعد سقوط بشار في المنطقة ستستمر لبضعة أعوام. أثناءها، ستكون هناك حركة اسمها التضامن الإسلامي أساسها التسامح تقوم بتلك المهمة. * كاتب سعودي [email protected] @jkhashoggi twitter/