في متجر للتحف التذكارية بمحطة «يونين ستيشن» بالعاصمة الأميركية، يمكنك شراء قمصان ملونة تزينها صورة للرئيس الأميركي السابق جورج بوش مع عبارة تقول (Miss me yet?) أي: ألم تفتقدوني بعد؟ إذا كانت مبيعات مذكرات بوش الأخيرة «نقاط القرار» دليلا على استعادة بوش لشعبيته، فإن الكثيرين، وإن لم يكونوا مشتاقين لفترة الرئيس السابق، فهم متحمسون للاطلاع على ما كتبه. ولعل أفضل وصف لكتاب الرئيس ما جاء في مراجعة لجريدة ال«نيويورك تايمز» (13 نوفمبر/ تشرين الثاني)، قالت فيه إن المذكرات عادية للغاية مكتوبة بلغة مبتدئة، ولكنها - أي الجريدة - تستذكر أن المذكرات تحوي في جزء منها: «الاعتراف بالخطأ، وقصصا عائلية، وجهدا ذاتيا واعيا لإعادة تشكيل إرثه السياسي». لقد كانت رئاسة بوش واحدة من أكثر الفترات جدلا واختلافا في التاريخ السياسي الحديث؛ إذ شهدت أضخم حدث إرهابي على أراضي الولاياتالمتحدة، وحربين في أفغانستان والعراق لا تزال نارهما مستعرة حتى الآن. بيد أن أهم ما يميز مرحلة بوش هو أن الخلاف حول السياسة الأميركية، بل وموقع الولاياتالمتحدة كقائدة للنظام العالمي فيما بعد الحرب الباردة، قد بلغ مداه ليس فقط بين خصوم أميركا، بل حتى بين حلفائها. لم يسبق أن خرجت مظاهرات في كثير من عواصم العالم ضد سياسات إدارة أميركية كالتي خرجت ضد إدارة الرئيس بوش، بل إن الرئيس ذاته قد أصبح أيقونة للشر والدمار في دعاية اليسار و«معارضي الحرب» في أميركا، وأوروبا، والشرق الأوسط، بحيث لم يتوانَ الرئيس الفنزويلي عن نعت بوش بالشيطان من على منصة الأممالمتحدة. في الشهور الأخيرة من عمر الإدارة تعرض الاقتصاد الأميركي، والعالم بالتبعية، إلى واحدة من أشد العثرات الاقتصادية في التاريخ الاقتصادي المعاصر، لا يفوقها في الأهمية إلا الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي. هل كانت إدارة الرئيس بوش بهذا القدر كله من السوء؟ ليس هناك جواب واحد لهذه المسألة، فعلى الرغم من السوداوية التي صبغت عهده فإن الرئيس بوش قد بدأ يستعيد بعض شعبيته على الأقل داخل الولاياتالمتحدة. في استطلاعين للرأي أجرتهما «غالوب»، ارتفعت شعبية الرئيس السابق من 35% في مارس (آذار) الماضي إلى 45% في أغسطس (آب)، وهي أرقام تفوق ما كان يحظى به من شعبية في سنواته الأخيرة. يقول ستيفن والت - أستاذ السياسة بجامعة هارفارد - إنه بات من الكلاشيهات أن يقال إن الرئيس أوباما الذي ظل يعد بتغيير سياسات سلفه غير الشعبية بات يتبع سياسة خارجية مقاربة، فقد زاد عدد الجنود في أفغانستان، ولم يغلق غوانتانامو، كما أن انسحابه المتعجل من العراق قد دفع بالبلد إلى المزيد من عدم الاستقرار. أما بخصوص التهديد النووي الإيراني، فإن أداء إدارة أوباما لا يتميز بشيء عن إدارة بوش، بل إن إيران تملك من النفوذ في العراق اليوم ضعف ما كانت تملكه زمن إدارة بوش. حقيقة، هناك مشكلة في تقييم مرحلة بوش، وذلك عائد إلى أنه تمت «شيطنتها» من جهة، والاستخفاف بقدرات الرئيس بوش (الفردية) إلى الحد الذي انعدمت معه القدرة على تقييم سياساتها بعيدا عن الجدل وجو الاختلاف الذي خلقت فيه. لا شك أن حزم وأحادية قرارات الرئيس بوش خلقا أعداء كثيرين لها، لا سيما في أوساط حلفاء أميركا، ولكن من الواضح أن تلك المرحلة بكل ما حملته من إخفاقات - أو سوء إدارة - كانت غنية بالتحولات والتغييرات. اليوم يتم لوم إدارة بوش على غزو أفغانستان والعراق، ولكن البعض ينسى أن جل تلك القرارات المتعلقة بالغزو حظيت بتأييد الأغلبية في الداخل الأميركي، وأن الذين كانوا يعارضون غزو العراق لم يكن يعارضونه لأنهم يدركون سلفا أن الحرب الطائفية أو الإرهاب سيجتاح البلد، بل عارضوه لأنهم يرفضون دخول أميركا الحرب حتى ضد ديكتاتور مثل صدام حسين. خذ مثلا حرب أفغانستان التي كان يسميها الرئيس باراك أوباما بالحرب الضرورية، ها هو اليوم يشحذ همم أعضاء «الناتو» لزيادة عدد القوات، ومواجهة «طالبان» التي تهدد بسقوط حكومة كرزاي مجددا. كانت هناك أيضا مبالغات، وتفكير مؤامراتي خارج عن حدود المنطق السليم يلف الكتابات المنتقدة لإدارة الرئيس بوش. في «الشرق الأوسط» كتب عن دور «المحافظين الجدد» الكثير بحيث صورت الإدارة كما لو كانت مسيرة من قبل يهود «صهاينة» يسعون لتغيير العالم، وقل الشيء ذاته عن دور نائب الرئيس ديك تشيني. حقيقة الأمر، أن المحافظين الجدد - وهم معدودون على الأصابع - لم يتبق منهم إلا واحد أو اثنان في إدارة بوش الثانية، كما أن نائب الرئيس ذاته قد فقد الحظوة عند الرئيس؛ بحيث كشف الرئيس علنا عن أنه فكر في تغييره عدة مرات، وبحيث لم يستطع تشيني أن يشفع حتى لمدير مكتبه المتهم بإفشاء أسرار حكومية. في مذكراته، يبدو بوش أكثر انكشافا وشفافية من أي وقت مضى. لقد اعترف بإخفاقه ومرارته من خذلان الاستخبارات له فيما يتعلق بأسلحة الدمار الشاملة، وأقر بفشله في معالجة تبعات «إعصار كاترينا»، وأكد أن طريقة معالجة إدارته لتصاعد أعمال العنف والإرهاب بعد غزو العراق بشهور قد كلفت الإدارة والعراق الكثير. ولعل ما يلفت الانتباه في ثنايا الكتاب، هو اجتهاد بوش في محاججة خصومه من معارضي الحرب؛ حيث يقول: «إنني أتفهم أن يختلف البعض معي في أهمية التهديد الذي كان يشكله صدام حسين بالنسبة للولايات المتحدة، ولكن لا أستطيع أن أرى لماذا يرفض البعض الإقرار أن حقوق الإنسان تعززت بتحرير العراق». هناك حاجة ملحة لإعادة قراءة المرحلة الماضية بعيدا عن العواطف والمواقف المسبقة. إدارة الرئيس بوش لم تكن شرا مطلقا، وهي ليست مسؤولة عن إخفاقات المرحلة كلها. كما أنها لم تكن ذات توجه واحد، بل تعرضت للتغيير في الأشخاص والأفكار طوال السنوات الثماني التي شغلت فيه المكتب البيضاوي. في الخمسينات كان الرئيس ترومان محل سخرية لأنه لم يكن يجيد الحديث من دون الوقوع في مطبات مضحكة، وكان البعض يعتبره شخصية جاهلة جاءت للرئاسة بالصدفة، وفي الثمانينات كان بعض القادة يسخرون من ريغان ممثل هوليوود الذي لا يملك أي معرفة بالسياسة الخارجية، وقد قيل في حق بوش الكثير، ولكن من الثابت أن هذه الشخصيات على الرغم من نواقصها الشخصية كانت لديها رؤى وتؤمن بأفكار، وأهم من ذلك كله أنها اتخذت قرارات تاريخية غيرت وجه العالم الذي نعيش فيه.