عبد اللطيف القرني - الاقتصادية السعودية استمتعت خلال فترة إجازة عيد الأضحى المبارك هذا العام بقراءة رواية أو قصة شجرة البؤس لعميد الأدب العربي طه حسين والتي يحكي فيها بين طيات هذا الكتاب صورة للحياة في إقليم من أقاليم مصر، فيصف حياة أهله، وعاداتهم وعلاقاتهم، وذلك من خلال تجسيده شخصيات خيالية قرأها من خلال واقعهم، وهذه الصورة نقلها المؤلف من صورة إلى القرطاس خلال زيارته للبنان في رحلة خاصة. ومن خلال هذه القصة ومن قبلها كتاب (الأيام) الماتع بأجزائه الثلاثة تعرفت على شخصية الأديب العربي طه حسين الذي ذهب بصره قبل بلوغه السابعة من عمره بعد إصابته بالرمد، وتعرفت أكثر على فكره المزيج بين قوى حضارتين متصارعتين، مختلفتين متغايرتين ""حضارة الشرق"" و""حضارة الغرب""، وعصارة واسعة من جامعتين مختلفتين: الأزهر الشريف وجامعة باريس.. فلقد كانت أصوله راسخة في ثقافة الأزهر تستخلص منها عناصر غذاء لا غنى عنها، وهذا واضح من خلال حفظه القرآن الكريم ودراسته العلوم الشرعية في الفقه والأصول والإلمام العميق بالنحو والأدب والمنطق. ولكن فروع هذه العلوم تشعبت في حضارة الغرب استمد منها سعة الأفق والتنوع المعرفي، شابها المقارنات الفكرية والتي لا تخلو من أخطاء تحسب عليه، وهذا الاحتكاك بين الحضارتين العظيمتين الغربية بماديتها والشرقية بروحانيتها لابد أن ينتج فكر جديد، هو الفكر نفسه الذي عاد فيه طه حسين من أوروبا. فبدأ يقيم التراث العربي بالمنهج الديكارتي في البحث والنظر. ولذلك نجد في ثنايا كتابه شجرة البؤس إشارات رائعة إلى أسلوب الكتابة التاريخية، ولعلي أنقل لكم ذلك في السطور الآتية: (ومن الحماقة الحمقاء والجهالة الجهلاء أن يحاول محاول إحصاء الأيام والليالي وهي تتابع ويقفو بعضها بعضا، لا يدري أحد متى ابتدأت ولا يعلم أحد متى تنتهي.. فليس إلى إحصاء هذه الحوادث من سبيل حين تحدث لفرد واحد، فكيف بها حين تحدث لأسرة كبيرة أو صغيرة، وكيف بها حين تحدث لمدينة من المدن أو إقليم من الأقاليم أو جيل من أجيال الناس! فهي متنوعة كثيرة التنوع، مختلفة عظيمة الاختلاف، يعظم بعضها ويجل خطره حتى يصبح له في حياة الفرد والجماعة أبعد الأثر. ويهون بعضها ويدق شأنه حتى لا يحفل به حافل ولا يلتفت إليه ملتفت، وهو مع ذلك خيط مهما يكن دقيقاً هين الشأن فله مكانه ذو الخطر في هذا النسيج الذي ينسجه مر الأيام وكر الليالي والذي نسميه الحياة.. فالخير أن نطوي من ذلك كله ما يجب أن يطوى، وألا نقف من ذلك كله إلا عند ما يستحق أن نقف عنده ونفكر فيه... ونحن مع ذلك لا نحسن التفريق بين الحادثة ذات الأثر البعيد والحادثة التي ليس لها أثر قريب أو بعيد، وإنما نحن نقدر الأيام والحوادث كما نستطيع وكما يصور لنا العقل والخيل. فأما تقديرها كما ينبغي أن تقدر، وتصويرها كما يجب أن تصور فذلك شيء أكاد أعتقد أنه أبعد منالاً من أن يبلغه طمع الطامعين وطموح الطامحين......) صفحة 168. إن قصة شجرة البؤس هي رحلة مؤلمة من الأحزان كتبت على عائلة مصرية في عصر مهم حين أخذ القرن الماضي ينتهي وأخذ القرن الحاضر يبتدئ، وأخذت الحياة المصرية تنتقل من طورها القديم إلى طورها الجديد في عنف هنا وفي رفق هناك. شجرة البؤس تحكي قصة حقيقية لحقبة زمنية من أحقاب الحياة المصرية اختلفت على أسر المدن المصرية والأقاليم, وأحدثت خطوبا لم يكد يحفل بها أحد، ولم يلتفت إليها الناس لحظتها، وهي مع ذلك قد شكلت مصر شكلاً جديداً وبدلتها من خمول الأرياف إلى ضجيج المدنية الصاخبة. شجرة البؤس تحكي حياة الإنسان الذي لا نعرف أقسى منه إذا أبطرته النعمة، ولا أعتى منه إذا ازدهاه الغرور، ولا أجهل منه إذا سيطرت عليه الأثرة، ولا أغفل منه إذا أحس خطراً قريباً أو بعيدا على ما يختص به نفسه من الخير. شجرة البؤس تحكي أن من بيننا أشخاصا خلقت لهم مصارع الحياة ظروفاً قاسية وجعلت لهم قبراً حياً حتى يأتي اليوم الذي ينتقلون فيه من هذا القبر الذي يدفن فيه الأحياء إلى ذلك القبر الذي يدفن فيه الموتى. شجرة البؤس قصة حقيقية ورواية أدبية يأتي تحليلها الشكلي في شخصيات الرواية المذكورة والتي تنقسم إلى شخصيات محورية وأخرى ثانوية. ومعظم الشخصيات فيها محورية كما يأتي الوصف الأدبي لها في أن الأديب طه حسين لم يعمد إلى الوصف المفصل للشكل الخارجي للشخصيات ولا سيما أبطال الرواية. ولكنه كان يذكر ما يميز الشخصية سواء من الناحية الشكلية أو من ناحية الظروف الاجتماعية والبيئية التي تتواجد فيها الشخصية وتأثير ذلك في شخصيتها وسلوكها، وهذا ما يسمى في النقد الأدبي بالوصف غير المباشر. ويؤخذ على كاتب الرواية أنه كثيراً ما يطيل، حيث يتطلب الأمر الإيجاز، ويكثر من المترادفات خاصة في وصف الشكليات التي لا ترتبط بالشخصيات المحورية. شجرة البؤس ذائقة أدبية بديعة أحسن أديبها في الانتقال بين الشخصيات والأحداث، ممسكا بأدوات البلاغة وأساليبها مما جعلها عميقة الغوص في بحر المعاني الإنسانية خاصة في الحزن الذي لا يمحى مع مرور الأيام، وإنما ينسج عليه حجاباً يزداد صفاقة وكثافة من يوم إلى يوم لينتهي في النهاية إلى أن ثمرة شجرة البؤس ما زالت تؤتي ثمارها وستظل إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا. تحياتي الفائقة وأتمنى لكم حياةً بعيدة عن الهموم والأحزان.