عندما سئل وزير الخارجية الفرنسي السيد برنار كوشنير عن السبب في التراجع عن استقالته؟ قال إن «الاستقالة هروب من مواجهة الواقع، واستسلام للواقع». ولا أظن أن أستاذنا المفكر الدكتور عبدالله الغذامي يتفق مع السيد كوشنير على هذا المبدأ من قريب أو بعيد.. بدليل أن الغذامي قدم استقالته من الهيئة الاستشارية لجائزة الشيخ زايد للكتاب إثر الضغوط الوجدانية التي تعرض لها نتيجة «الفضيحة الثقافية» التي فجرها الأستاذ عبدالله السمطي والتي أكلت وشربت من أعضاء اللجنة الاستشارية، والذي يُعتبر الغذامي عضوا من أعضائها، مع كل من الدكتور صلاح فضل والدكتور رضوان السيد والدكتور عبدالسلام المسدي والدكتور عبدالرحيم كافود والأستاذ محمد المر، وفتحت الباب على مصراعيه لجيش من التساؤلات ورفعت سقف المحاسبة لكل من تسبب في هذه الفضيحة الثقافية. مع أنني لا أظن أن الاختلاف كبير بين «الفضيحة الثقافية» لجائزة الشيخ زايد وبين فضيحة قضية «الغجر في فرنسا» على مستوى تطبيق «معايير القيمة»، و»نفعية الهدف»، وقانونية الحقوق والواجبات. ونتيجة تلك «الفضيحة الثقافية» لجائزة الشيخ زايد، نادى بعض المثقفين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بمحاسبة اللجنة التحكيمية واللجنة الاستشارية للجائزة. ثم جاءت استقالة الغذامي وكأنها على غرار «بيدي لا بيد عمرو» لأني لا أظن أن الجائزة ستحتفظ بطاقم اللجنة الاستشارية بعد هذه الفضيحة الثقافية التي زعزعت ثقة المثقفين في الجائزة. وإعادة توثيق تلك الثقة لن يتحقق إلا بتغيير طاقم اللجنة الاستشارية، وأعتقد أن هذا هو التصرف الحكيم الذي يجب أن تتبعه اللجنة العليا للجائزة. افتتح الغذامي استقالته ببيت من أشهر قصائد «الحرب والثأر» في العصر الجاهلي. أصبحت وائل تعج من الحرب عجيج الحجال بالأثقالِ لم أكن من جناتها علم الله وإني بحرّها اليوم صالِ قد تجنبت وائلا كي يفيقوا فأبت تغلب عليّ اعتزالي ولا أدري إن كان اختيار الغذامي لهذا البيت الشعري من معلقة لها «خصوصية» مثل «مربط النعامة» الذي افتتح به استقالته، له دلالات أخرى مقصودة خفية غير دلالة «الإجبارية» التي يريد أن يوصلها للرأي الثقافي. هل يريد أن يستثمر «ثيمة الحرب والثأر» من خلال تطبيقات الراهن، وأن من يُجبر على الحرب يُدفع إلى الثأر؟. هل يريد أن يقول أن العقلية العربية حتى اليوم ما تزال تفكر بطريقة «ناقة البسوس» السطحية والساذجة التي أشعلت حربا من «لاشيء» ؟ هل يريد أن يقول أن ما حدث في جائزة الشيخ زايد مجرد «ناقة» دخلت «مرعى غيرها» ويجب ألا يستفز دخولها الآخرين حتى لا تتكرر «مأساة جساس وكليب»؟ هل يريد أن يقول أن التاريخ العربي الثقافي يعيد نفسه، وأن المثقف العربي المعاصر لم يتحرر بعد من عادات القبيلة الثقافية انصر أخاك ظالما أو مظلوما؟ وبعد نص استقالته جاء حواره في المجلة الثقافية في صحيفة الجزيرة، ولفت انتباهي تركيز الغذامي على دلالتين هما: «الشرف والصدق»، ورأيت أن تركيز الغذامي على هاتين الدلالتين هو بمثابة «طلب» لعطف الرأي الثقافي بالضغط على معاني وجدانية مثل «الشرف والصدق والمسئولية الأخلاقية، وحماية شرف الجائزة، وحماية رمزية الجائزة» ولم يبقَ للغذامي سوى أن يقول ليرفع مستوى السلبية «قدّر الله وما شاء فعل» و»هذا مقدّر ومكتوب». وذكرني بقول عمرو بن كلثوم نَعُمُّ أُنَاسَنَا وَنَعِفُّ عَنْهُمْ وَنَحْمِلُ عَنْهُمُ مَا حَمَّلُوْنَا ولا أدري أين كان الغذامي عندما كان عضوا في اللجنة الاستشارية ليمنع هذه الفضيحة الثقافية بكل المقاييس؟. وأظن أن المرء لا يلجأ إلى استغلال المعاني الوجدانية في حالات الانكسار والضعف والوقوع في الخطأ. وهذا ما شعرت به من خلال حوار الغذامي عن استقالته، حتى أنني قلت ليته «لم يجرِ هذا الحوار» الذي زاد الطين بلة، فظهر الغذامي لأول مرة لي بلا منطق ولا موضوعية ولا حجة عقلية مجرد مُحليّلات عاطفية تؤثر على المثقفين المراهقين، وأصبح يردد عبارات هي أقرب «للاعتراف» بالخطأ أكثر من كونها إنكارا للخطأ. وبعيدا عن وجدانيات أستاذنا الغذامي نأتي إلى الجانب الحيوي والمهم، هل يتحمل الغذامي وأعضاء اللجنة الاستشارية مسئولية هذه الفضيحة الثقافية؟ هناك من يرى أن الغذامي واللجنة الاستشارية لا تتحمل مسئولية هذه الفضيحة وأن المسئولية تقع على عائق اللجنة التحكيمية، وهذا الأمر غير صحيح، وهو غير صحيح لأنه يخالف مهام اللجنة الاستشارية، ولو عدنا إلى موقع الجائزة لمعرفة مهام اللجنة الاستشارية سنجد أن لها أربع مهامها. تتكون جائزة الشيخ زايد من ثلاث لجان؛ اللجنة العليا للجائزة، واللجنة الاستشارية واللجنة التحكيمية. ومهام اللجنة الاستشارية الذي كثر فيها القيل والقال وبرأها الغذامي مع نفسه من تحمل مسئولية هذه الفضيحة هي: 1- اختيار المحكمين المتخصصين في كل فرع من فروع الجائزة. 2- اختيار الأعمال التي استوفت الشروط والمعايير ثم إرسالها للجنة التحكيمية. 3- استلام نتائج اللجنة التحكيمية. 4- دراسة نتائج لجان التحكيم في كل فروع الجائزة وتحديد النتائج النهائية وتقديمها للجنة العليا لإقرارها. وكما هو مذكور في موقع الجائزة بأن اللجنة الاستشارية لعام 2010» قد استعانت في هذه الدورة بعدد كبير من المحكمين المتخصصين في مجالات الكتب المتقدمة حسب فروع الجائزة والمشهود لهم بالكفاءة والتميز والموضوعية». ووفق تلك المهام فاللجنة الاستشارية هي التي تختار «لجان التحكيم» وتقدم لهم شهادات تزكية بالكفاءة والتميز والموضوعية، وبالتالي هي التي تتحمل مسئولية سوء اختيار المحكمين الذين تسببوا في هذه الفضيحة، في حالة إن سعى الجميع لجعل لجان التحكيم هي»كبش الفداء» لسوء اختيار اللجنة الاستشارية. واللجنة الاستشارية هي التي تختار الأعمال التي تُرسل للجان التحكيم بعد تأكدها من أنها مستوفية الشروط والمعايير، فمهمة اللجنة التحكيمية هي مهمة إجرائية، لا تتدخل في الاختيار الأولي للكتب ولا الإقرار النهائي للنتائج فهما من مهام اللجنة الاستشارية. فكيف اختارت كتاب الدكتور «حفناوي بعلي» على أساس أنه مستوفي الشروط والمعايير لترسله إلى لجان التحكيم؟. اللجنة الاستشارية هي التي تعيد دراسة نتائج لجان التحكيم ثم تقرّها وتقدمها للجنة العليا، فكيف فاتها تجاوزات كتاب الدكتور حفناوي عندما أعادت دراسة نتائج التحكيم وأقرّته ككتاب فائز وقدمته للجنة العليا؟ هذا دليل على أن لجنة التحكيم التي هي من اختيار اللجنة الاستشارية كانت غير مؤهلة ثقافيا ومعرفيا لهذا العمل، وإلا ما فاتها التشابه بين بعض الكتب وهذا الكتاب. أعتقد أن على الدكتور الغذامي عندما يتحدث عن تشابكات هذا الموضوع أن يدرك أنه لا يتحدث إلى ثلة من الأطفال المدللين، وإذا كان «المتكلم عاقلا فالقارئ أيضا عاقل» ويستطيع أن يحلل الأمور ويتوصل إلى النتائج. ومن الأشياء التي استغربت لها من حوار أستاذنا الغذامي في الجزيرة، أنه لا ينصح اللجنة الاستشارية «بالاستقالة»!. ولا أدري لماذا هذه النصيحة، أليس بقية «أعضاء» اللجنة الاستشارية تتشارك مع الغذامي في حماية شرف الجائزة وحماية رمزية الجائزة حجة الغذامي لتقديم الاستقالة؟، وبالتالي فاستقالتهم تحقق نفس قيمة ما حققته استقالة الغذامي؟ ليست المشكلة كامنة كما يريد أن يصدرّها لنا الغذامي في التشابه بين كتابه وكتاب الدكتور الخفناوي، فهذا تسطيح لهذه الفضيحة الثقافية وتغيّب لجوهر المشكلة. فالمشكلة هي عدم جدية أعضاء اللجنة الاستشارية في عملها الثقافي، وإن كنت واثقة من أن الغذامي كما نعرفه عفيف النفس زاهد في الماديات، فأنا واثقة أن بعض المثقفين العرب ممن يتسارعون لقبول الجلوس على كراسي اللجان الاستشارية والتحكيمية للجوائز وخاصة الخليجية هم من «المثقفين المرتزقة» حتى وإن كان يملكون أسماء ثقافية، ولذلك لم أندهش أن بقية أعضاء اللجنة الاستشارية لم تقدم استقالتها مع الغذامي،وإن كنت أتمنى خلاف ما يتمناه الغذامي أن تستقيل أو تُقال. المشكلة أن الرأي العام الثقافي فقد ثقته بموضوعية الجائزة واستقالة الغذامي لن تغيير الرأي العام الثقافي كما يتصور الغذامي أو تحمي شرف الجائزة، بل إقالة اللجنة ومحاسبتها هو الذي سيسترد ثقة الرأي العام الثقافي في الجائزة. المشكلة اكتشاف الرأي العام الثقافي أن الذين يُديرون الجائزة»اللجنة الاستشارية» قد يكونون ثلة من «المثقفين الكبار المرتزقة» يستغلون الجائزة ماديا ومعنويا. المشكلة أن الرأي العام الثقافي اكتشف أن اللجنة الاستشارية المخولة لقيادة الجائزة مثل «الأطرش في الزفّة» و»الأعمى الذي يقود سيارة». لا تسمع لا ترى لا تتكلم. المشكلة أن التساهل في معايير الكتب وسوء اختيار اللجنة الاستشارية للجان التحكيم والتهاون في مراجعة نتائج تلك اللجان قد أساءت لسمعة الجائزة ولن ينقذ سمعتها إلا تغيير أعضاء اللجنة الاستشارية. أما استقالة الغذامي فقد اعتبرها البعض حساب إضافي لمصلحته، وأنها تمثل ثورة بيضاء على أخطاء المسئولية، أو كما اعتبرها هو أنها تُجير لحماية شرف الجائزة ورمزيتها. ويعتبرها البعض الآخر هروبا من تحمل المسئولية ورشا للرماد في العيون حتى لا يُحاسب الغذامي على تقصيره على حماية شرف الجائزة ورمزيتها عندما كان يجلس على كرسي اللجنة الاستشارية. وأنا أعتبرها أن المثقف العربي مهما بلغ من مركز ثقافي لم يصل بعد إلى فضيلة «الاعتراف بالحقيقة وبالخطأ وبالقصور». ولذلك فاستقالة الغذامي لن تقدم ولن تؤخر، وأعتقد أن على الغذامي وأعضاء اللجنة الاستشارية أن يقدموا «اعتذارا» رسميا للرأي العربي ا لثقافي عن الخطأ الذي وقع، مع الإعلان بتحملهم المسئولية المباشرة. فهناك فرق بين «شجاعة المثقف» و «ثقافة الشجاعة».