عندما عدت إلى الرياض في زيارة سريعة قبل أيام بعد طول غياب رأيت تغييرا كبيرا في عاصمة زادت مساحتها كثيرا حتى أنني رأيتها ليلا من الجو قبل أن تهبط الطائرة في مطارها عالما من الأضواء المبهرة المتلألئة لا نهاية له ولا بداية. أنا أتحدث عن عاصمة تبعد "فركة كعب" عن أي مكان عشت فيه خلال السنوات الماضية، لكن طول الغياب جعلني أقارن بين آخر انطباع تركته فيّ، وبين انطباعي الأول بعد العودة إلى عاصمة مدهشة تملك مفاتيح السياسة والإقتصاد والإعلام في الشرق الأوسط وتفتح بواباته ودهاليزه بمهارة بالغة ورقة لا تجرح أحدا. سرة قوة الرياض الناعمة الآن ليس إقتصادها القوي ولا سياستها التي كانت دوما متزنة وناضجة وإنما إنتاج الأفكار الذي لا يمكن أن يحدث بطريقة صحيحة دون انفتاح فكري على التعدد الثقافي وهو ما نشهده حاليا، فالمملكة التي كان يأخذ عليها البعض في الماضي القريب تشددها في هذا الجانب، تناقش الآن كل شئ. تتجاوز الرهبة من التابوهات، دون أن تتعدى حدود الإسلام السمح المتسامح مع ثقافة الإختلاف ومع الآخر. في صحافة الإنترنت وفي الصحافة الورقية أفكار تلتقي وأخرى تتعارض لكنها تصنع مزيجا من الحركة الفكرية والإعلامية تليق بعاصمة كبيرة الحجم والتأثير إقليميا ودوليا. الصحافة السعودية بدأت تكتب بلغة قوية وتنقد بحدة فتشعر أحيانا بأن لا سقف يحدها، وقد يكون هذا الشعور غير دقيق تماما، لكنه يكفي للتدليل أن ماء كثيرا جرى في النهر. قضايا كثيرة خاضت فيها الصحافة لم يكن في الإمكان تناولها في الماضي. الأمم الراسخة القوية لا تخشى من الحرية ولا التنفس في الهواء الطلق بل تزداد بها قوة وإبهارا.