في الستينيات كنا نسافر كثيراً، نطل على العالم بأرواح مغامرة تهدف إلى الاكتشاف، وصنع التجربة والدهشة، واصطياد المعرفة والوعي والتأثر عبر كتاب جديد، وصحيفة ندمن قراءتها يومياً، ونتعرف على أسرار صناعة المطبوعة، وتقديم الخبر للقارئ، ووضع العناوين المثيرة لمخيلة القارئ، والمحرّضة على قراءة الموضوع الخبري أو التحليلي. كنا في حالة انبهار بكيفية تقديم الصحيفة، وصناعتها، وإنتاجها، نتوقف كثيراً عند أفكار الموضوعات الصحافية والطريقة التي ابتكرت في صياغة أسلوبها وعرضها، والشكل الذي قدمت به (الماكيت) الصحفي، وتقديم الأفكار الرئيسية في الموضوعات على شكل عناوين فرعية مثيرة (فلاشات) حتى إن اهتماماتنا تصل إلى التوقف عند الحرف (البنط) المستخدم في المقدمة، والموضوع، والعناوين. كان هذا يحدث.. وكنا نعتقد بأن كل هذا قد لا نطاله في صناعة صحافتنا لعدم توفر الكوادر البشرية من جهة، وتوفر الامكانات الفنية، والتجهيزات الطباعية من جهة ثانية، وكنا نرى أن الطريق أمامنا طويل، طويل للوصول إلى جزء بسيط جداً من هذا الذي نشهده في الصحافة العربية بمصر، وبيروت بالذات، وهما عاصمتان للانبهار الذي كان يجتاحنا. كانت صحافتنا صحافة مقال، ومقيدة.!! وكانت الأخبار المحلية بالكاد تغطي صفحة واحدة وتأتي عبر مكاتب العلاقات العامة، أما الأخبار الدولية فلا تكاد تذكر، وكأنما نحن نعيش خارج الكون، خارج المسافات والاهتمامات والتأثيرات والمؤثرات، وكأنما التحولات لا تعنينا، ولا تخصنا، ولا نرتبط بأي حدث سياسي، أو اقتصادي، أو فكري. وإذا قدمنا أخباراً عالمية فهي من الراديو الذي نسجل نشرته الاخبارية (إذاعة لندن مثلاً) ونفرغها ثم ننشرها..!!؟ زمن مضى، وصحافة عشناها..!؟ ثم بدأ وعي مختلف.. ونشطت عزائم متوثبة.. وترسخ إيمان وقناعات بأن الصحافة هي المهنة الوحيدة التي ليس فيها دوام محدد، ولا ترتبط بساعات عمل تبدأ وتنتهي، ولا زمن مخصص فيه طقوس الوظيفة، وترتيبات ممارستها، وأجواء ومناخات وأمكنة العمل. تحولنا إلى مفاهيم أن الصحافة عمل دائم على امتداد الزمن، وما بعد الزمن، تمارسه في الشارع، في المقهى، في تفاصيل الحياة، في كل ظرف زمكاني، وان الصحافة لا تصنعها الشهادات الاكاديمية، والحس والموهبة لا تنتجه مغريات موقع الصحافي في المجتمع، ولا تصوغه وتكرسه الرغبة في ايجاد مكان مميز في الحياة، واصطياد الشهرة عند الآخرين والناس، وبهذا المفهوم والمعنى أصبح لدينا صحافة وعي، وفكر، ورأي، ومتابعة، وتحسس لهموم الناس في محيطنا، والمحيط الواسع الإقليمي والدولي، وفرضنا صحافة لا تقرأ في سفاراتنا بالخارج بعد أسبوع من صدورها كما كانت. بل صحافة تجاوزنا في مادتها الصحفية، وصناعتها الفنية، وحضورها، الصحافة التي كانت تبهرنا في ذلك الزمان. لماذا الحديث عن الصحافة - الآن -؟؟ الحديث شهي، ومثير، وملهم، لكنه ليس أوانه..!؟ غير أن ما أعاد الذكريات، وأثار الشهية في المقارنة أن بيروت، وهي عاصمة النور والإشعاع والثقافة والتنوير تعيش أغلب أيام السنة دون صحافة. هل تتصورون بلداً بدون صحافة.!؟ إنه تماماً كالقبر، تحس فيه أنك خارج دائرة الكون، وتفاعلاته. في الأعياد - وما أكثر الأعياد في بيروت - الدينية لكل الطوائف والمذاهب، والوطنية تعطل الصحافة يومين على الأقل. فتحس بفراغ كبير في حياتك، وانك تفتقد شيئاً ربما هو من مقومات الحياة السوية، السليمة. وطن بلا صحافة، والصحافة رئة المجتمع..!! في المملكة نبحث عن زمن، وأمنيتنا أن نصدر مساء وصباحاً..!؟