د.يوسف بن أحمد القاسم - الاقتصادية السعودية قديما قام ملكان بتمثيل دور الخصمين أمام نبي الله داود عليه السلام؛ وذلك لاختباره في قضية العدالة بين الخصوم (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ. إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ. قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ) وبعد أن استمع إلى دعوى أحد الخصمين، بادر إلى إصدار حكمه قبل أن يستمع من الخصم الآخر، وهذه سقطة غير مقصودة، فعلم أنه تعرض لابتلاء واختبار (وظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) ولهذا الدليل (أبطله بعضهم بحجة أنه تمثيل حقيقي) ولغيره من الأدلة, ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى جواز التمثيل متى كان محققاً لمصالح عامة, بشرط أن يكون خالياً من الأمور المحرمة, وممن ذهب إلى جواز التمثيل بضوابطه الشرعية سماحة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله, وما زال المسلمون يتطلعون إلى تماثيل هادفة, تخدم المصلحة العامة, وتنشر مبادئ الفضيلة, وتعالج الأوضاع السلبية للمجتمع, دون أن تستهدف ثوابت الدين وقيمه ومبادئه بأي شكل من الأشكال, ولكن هذه المحاولات لا تزال متواضعة جداً, بل إن الواقع يقول إن التمثيل بواقعه الحالي يقوم بعمليات إساءة، إما لثوابت الدين, أو إلى الفضيلة, أو إلى سمعة الوطن ومواطنيه, ووضعهم جميعاً في سلة واحدة, أو بصورة مبالغ فيها, أو بطريقة تمهد لاستخفاف الشعوب بنا, لينسب المجتمع كله إلى التهريج وخفة العقل, ومن هنا أشيد بمقال الكاتب محمد الفيصل في صحيفة ""الجزيرة"" يوم الأحد17 شوال, الذي وضع النقاط على الحروف, بحس وطني, وأصيل. مقالي هذا لن يتطرق إلى الجانب الفقهي لهذا الموضوع؛ لأنه قد بحث في جامعاتنا الإسلامية, وبشكل موسع, سواء عبر رسائل ماجستير في جامعتي الإمام وأم القرى, أو عبر بحوث مستقلة, ومنها بحث العلامة دكتور بكر أبو زيد, والموسوم بالتمثيل, وقد عرضت هذه البحوث والرسائل الأقوال الفقهية المعاصرة بأدلتها, وكان لها موقف واضح من التمثيل، إما بالمنع مطلقاً, وإما الجواز بالضوابط الشرعية, وهذا ليس موضوع حديثنا، وإنما حديثنا عن اختراق التمثيليات ذات الوجه السعودي لكل الخطوط الحمراء, حيث لا تزال تسيء إلى ثوابت الدين وقيمه, أو إلى سمعة الوطن ومواطنيه, وبصورة أثارت سخط المجتمع بجميع فئاته, باستثناء من لا يرفع رأساً لهوية مجتمعنا الدينية والوطنية, أو من لا ينظر إلا من ثقب الباب. وبالنظر للدول العربية والإسلامية, نجد أن عديدا من المسلسلات والأفلام العربية كانت لها أصداء جيدة لأوطانها, وعكست الصورة الإيجابية لأبناء بلدها, وربما لعقود طويلة - مع تحفظي لما في بعض هذه المسلسلات والأفلام من خرق لبعض الضوابط الشرعية - كما استطاعت أن تكسب احترام المشاهد وتقديره, فمثلا فيلم""عمر المختار"" نجد أنه قدم صورة ناصعة لجهاد الليبيين ومن وقف معهم من العرب والمسلمين ضد الطليان المحتلين, وقد استطاع هذا الفيلم التاريخي أن يحيي هذا الشيخ البطل ""عمر المختار"" بإحياء جهاده بالصوت والصورة, حتى أصبح العرب وغير العرب يستحضرون دوما جهاد الليبيين ضد المحتلين, بل أصبحت هذه الشخصية التاريخية ""عمر المختار"" حاضرة أكثر من بعض الشخصيات البطولية السابقة له في النضال كشخصية محمد عبد الكريم الخطابي المغربي الذي لا يكاد يعرفه إلا الندرة, رغم جهاده ضد المحتلين الإسبان والفرنسيين, وذلك لأنه لم يحظ بما حظي به عمر المختار- كما نبه على ذلك المؤرخ علي الصلابي - وهذا يدل على أثر التمثيل في غرس نماذج تاريخية, أو غيرها. إن فن التمثيل له أنواعه الثلاثة: الجد أو المأساة (التراجيديا), والهزل أو الملهاة (الكوميديا) والمزيج بينهما (الدراما), فاختصر بعض الممثلين والمخرجين السعوديين هذه الأنواع كلها في العبث بثوابت الدين وقيمه, أو في إضحاك المشاهد على جوانب النقص في المواطن السعودي بصور هزلية, حتى أصبح الطابع العام للمسلسلات السعودية أنها مثيرة للتهكم والسخرية على أقل تقدير..! وهذا لا يعني أن الممثل السعودي عاجز عن إخراج المسلسلات الناجحة والهادفة, فمسلسل ""غبار الهجير"" الذي عرض قبل سنوات في قناة المجد الفضائية, قد استطاع أن يبرز مشاهد هادفة, وجذابة, بل خالية من العنصر النسائي, كما استطاع بطلها إبراهيم العنيزان - الرجل السبعيني - أن يقدم عملاً إبداعياً, وبطريقة احترافية تعطي انطباعاً للمشاهد أنه ممارس للتمثيل منذ سنين, مع كونه دخل في التمثيل للتو, في الوقت الذي أخفق فيه ممثلون مارسوا المهنة منذ عشرات السنين..!