عبدالوهاب بن ناصر الطريري - نقلا عن الاسلام اليوم هنا ولد الإمام؛ فهذه أرض أجداده وآبائه ومولده، وبساط طفولته ومدرج خطاه، هنا استنشق أول نسائم الحياة، واستقبل أول مراحل العمر، هنا قضى السبع السنين الأول من حياته . تذكرت هذا الإمام وأنا أزور مسقط رأسه في منطقة ماردين بتركيا فكان لذكراه مذاق آخر. تذكرت اتساعه المكاني وامتداده الجغرافي؛ فلا أعلم عالمًا في عصره أو بعده كانت الأمصار المتباعدة تجتمع عنده لتتحول أسئلتها إلى فتاوى بلدانية صارت كتباً باسم تلك البلاد، فهذه حماة، وواسط، وصفد، وتدمر، ومصر، ومراكش، وقبرص، وماردين ، وغيرها كثير، فتساقطت عليه المسائل من هذه الأقطار على تباعدها وتنوع مذاهبها ليكون علمه المرجع لهم جميعاً، فكان حاضراً في تلك البلاد النائية، يراجعه علماؤها على ما كان هو عليه في بلده من الحبس والتضييق. أما اتساعه الزماني فقد ظل منذ سبعمائة سنة حياً حاضراً في كل المراحل الزمنية ما بين تعصب له وتعصُّب عليه، وبقي علمه حياً يتجدد في حياة الأجيال، بحراً غمراً يَرِدُونه، فكلٌّ يغترف حسب سعة إنائه. وها نحن بعد سبعمائة سنة لا نعلم عالماً ظلت حياته وتراثه مَنْجَماً للباحثين والدارسين كهذا العالم، بحيث إنه قد صدر إلى الآن قرابة مائتين وخمسين أطروحة، ما بين رسالة ماجستير ودكتوراه، عن علم هذا الرجل، ولا يزال تراثه يتسع للمزيد. أما ما كُتِب عنه من مقالات وبحوث ودراسات، فإن استقصاءه يتردد بين الصعوبة والاستحالة. ثارت في نفسي هذه الشجون وغيرها وأنا في منطقة ماردين التي تقع فيها بلدته التي ولد فيها؛ حيث عُقد مؤتمر حضره جمعٌ من أقطار العالم الإسلامي، من موريتانيا مروراً بالمغرب وليبيا والسعودية واليمن والكويت وإيران وغيرها؛ ليتدارسوا فتوى كتبها الشيخ في نصف صفحة، ولا نظن أنها أخذت من وقته نصف دقيقة، فهو الذي عُرِف بسرعة قراءته وكتابته. وأتى في هذه الفتوى بتقسيم مبتكر عن الدور؛ حيث وصف هذه البلد التي هي بلده الأول بأنها قسم آخر جديد وهي "الدار المركبة"، وكان هذا التقسيم المبتكر إحدى سطوعات عبقرية هذا الإمام. وقد عُقد المؤتمر لمدة يومين في جلسات متوالية، تُطرح فيها أوراق العمل في دراسةِ وتدارُس هذه الفتوى. فأي عبقرية وحضور مدهش لهذا الإمام! احتفَتْ جامعة ماردين بهذا المؤتمر الذي أقامه مركز التجديد والترشيد، وأذن لي شيخنا راعي المؤتمر بكلمة في حفل الافتتاح فتطايرت من ذهني كل الكلمات، ولم يبق إلا دَفْقٌ عاطفي تحدثت به أمام إخوتي الأتراك؛ تنفست فيها حُبًّا، وقلت: إن كانت مدينتكم تُظِلُّنا اليوم؛ فإن الخلافة التي امتد رواقها من أرضكم قد أظلتنا ثمانية قرون، إننا نأتي إليكم وفي قلوبنا خزائن من الذكريات الجميلة لهذا البلد وأهله، فنذكر آباءكم الذين اندفعوا في أوربا فقلبوا مواجهة الحروب الصليبية حتى ضربت قبضاتهم القوية على أبواب "فيينا" ، نتذكر آباءكم الذين ساحوا في أوربا فأنبتت مواطئ أقدامهم مآذن يُنادى عليها: الله أكبر. نتذكر أن الله ادخر بشرى رسوله صلى الله عليه وسلم يوم بشر أمته أن مدينة هرقل (القسطنطينية) تُفتح أولاً؛ فكان آباؤكم هم الذين فتحوها. وإن الدماء التي كانت تجري في عروق أجدادكم تجري في عروقكم، وإن العزة التي كانت تظلل رؤوسهم تظلل رؤوسكم. أما منطقتكم "ماردين" فلها شكر مُضَاعَفٌ؛ فهي التي أهدت للأمة الإسلامية عبقرية علميةً إحدى تجليات عظمتها أن نجتمع بعد سبعمائة عام في مؤتمر علمي عالمي نتدارس فيه صفحة من علمها. ولئن كنا نتذاكر عبقرية، إمام فقد كنا بحضرة إمام نقبس من هديه وعلمه ونور بصيرته، كنا في هذا المؤتمر في حضرة شيخنا العالم المربي الذي لا أعلم أني عَرَفتُ عالمًا له رسوخ علمي عميق وتنوع معرفي واسع كما عَرَفْته في هذا الإمام، وإذا كان عبقريُّ ماردين قد امتد علمه إلى الأمصار؛ فإن عبقري شنقيط قد حمل علمَه إلى الأمصار بهمة شبابية لم يعُقْها تقدُّم العمر ولا وهن الجسد، فهو الذي يتوثّب بعلمه بين القارات لِبَثِّ الروح في المجتمعات الإسلامية التي تعيش في الفضاء العالمي؛ ليشعل فيها وقدة الوفاء لدينها، وحيوية التفاعل مع مجتمعها. ولقد كان هو مصدرَ الطاقة والحيوية للشباب الذين حضروا هذا المؤتمر، وكانت دعوته لهذا المؤتمر وقيامُه عليه واحدةً من مبادراته الكثيرة والمتوالية. أما نتاج ذاك المؤتمر الحافل، وما دار فيه، فهو منشورٌ في هذا الموقع عبر الملف الخاص بهذه القضية. رحم الله فتى ماردين شيخ الإسلام والمسلمين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، وحفظ الله وبارك في شيخنا الإمام العلامة عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه.