إن هذا الغزو المسلح، وهذا التطاول السافر باللسان وباليد، وهذه المحاولات المحمومة لصرف الأمة عن دينها؛ بالشهوات تارة وبالشبهات أخرى، كل ذلك ليس وليد العصر ولن يقبر الساعة، إنها حكاية حرب معلنة منذ اليوم الأول، يوم (أبى واستكبر).. قصة لم تبدأ فصولها ببعثة النبي عليه الصلاة والسلام فحسب، بل منذ أن كرم الله آدم عليه السلام، وأسجد الملائكة له، فهي حرب الحق والباطل، والخير والشر، إنها حرب حزب الله المفلحين وحزب الشيطان الخاسرين، منذ أيام البشرية الأولى، ولن تضع الحرب أوزارها إلى آخر الزمان، وإن كان للباطل فيها جولات، فإن العاقبة فيها للتقوى، ولئن كانت دولة الباطل والكفر ساعة، فدولة الحق والإيمان إلى قيام الساعة. وتاريخ الأنبياء خير شاهد على ما نقول، فبدء التطاول سنه إبليس لعنه الله عندما قال معانداً رب العالمين سبحانه وتعالى وقد أمره بالسجود لآدم عليه السلام: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] و[ص:76] فأبدى بذلك ما يكنه من حسد لآدم عليه السلام، ثم أبدى عداوته له ولذريته من بعده، {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قليلًا} [الإسراء:62]. وتستمر الحرب والعداوة بعد آدم عليه السلام، فها هو نوح عليه السلام، أول رسول يرسله الله عز وجل بعد ظهور الشرك في بني آدم، يجابَه مع حرصه على هداية قومه بطعن تلاميذ إبليس اللعين في شخصه الكريم {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9]، وفي أتباعه {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود:27]، وفي دعوته {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأعراف:60]! وهكذا دعوات الأنبياء كثيراً ما تشوه وكثيراً ما تستهجنها العقول القاصرة. وهكذا كان شأن كثير من الأمم مع الأنبياء بعد نوح، فالله سبحانه وتعالى أخبرنا في كثير من الآيات بأخبار الأنبياء مع أقوامهم، وفيها تفصيل لطعون القوم ولردود الأنبياء عليهم، قال الله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [الأعراف:65] فكيف جابهوا تلك الدعوة؟ {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِين} [الأعراف:66]، قال القرطبي مفسراً قولهم في سفاهة: "أي: في حمق وخفة عقل"(1)، وهكذا تسير قافلة الأنبياء، وتتكرر صور الإساءة؛ قال تعالى: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [الذاريات: 38]، جاء موسى عليه السلام وجاءت معه الحجة الظاهرة والسلطان المبين، فماذا فعل فرعون أستاذ الجاحدين المستكبرين لما أتته تلك الحجج النيرات والآيات البينات؟ لجأ للتهم والسباب! قال الله تعالى: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:39]. ومع أن اليهود اكتووا بفرية فرعون وتهمه هذه، وعلى الرغم من رؤية أجدادهم انتقام الله عز وجل منه، إلا أنهم لم يعتبروا، فعادوا لمَّا بُعِث فيهم عيسى عليه السلام ليقولوا ساحر! قال ابن جرير في تفسيره بعد أن ذكر سنده لقتادة في قوله تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} [مريم:34] قال: "امترت فيه اليهود والنصارى، فأما اليهود فزعموا أنه ساحر"(2). وهكذا ما من نبي جاء بالحق من ربه إلاّ ناصبه المجرمون العداء، ورموه بالتهم جزافاً. فلا عجب أن ينال خاتم النبيين وسيد الأولين والآخرين، أمراً سبق أن نال الأنبياء قبله. وقد أجمل لنا ربنا جل في علاه خبر الأنبياء مع الأمم المكذبة، فقال مسلياً رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم إذ رماه قومه بالسحر والجنون: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَومَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:52-53]، قال ابن كثير: "أي: لكن هم قوم طغاة، تشابهت قلوبهم، فقال متأخرهم كما قال متقدمهم"(3)، فهم لم يتواصوا به، ولكن كما تشابهت قلوب الأول والآخر منهم واجتمعت على الطغيان، تشابهت كلماتهم واجتمعت على تكذيب الرسل والطعن فيهم؛ إما في أشخاصهم أو في دينهم الذي جاءوا به بعقول قاصرة وأفهام سمجة، ولا زال ذلك الطغيان يرثه أكابر المجرمين شر خلف لشر سلف، وعزاؤنا أن العاقبة للتقوى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 51-52]. إن التطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتطاول على إخوانه من أنبياء الله الكرام، وكذلك التطاول على الدين بالاستهزاء بأي شعيرة من شعائره، أو بالتشكيك وإلقاء الشبهات حول أي حكم من أحكامه، ليس في حقيقة الأمر إلا تطاولاً على الله سبحانه وتعالى الذي أرسلهم بالحق وشرع ما بلغوه للناس، إذ لسان حال المتطاول يقول: "لا أبالي بالرب الذي أرسل هذا الرسول أو شرع هذا الدين"، وهذا لا يصدر إلا من كافر عدو لله موغل في العداوة، قد يظهر ذلك كبعض الحربيين، وقد يستره كبعض المعاهدين وكثير من المنافقين، يطعنون في الدين، ويحاربون شرع رب العالمين، ثم يدعون الإصلاح وإرادة الإحسان والتوفيق، {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء: من الآية62]، {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: من الآية107]، ومع ذلك قد يقع الاغترار {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون: من الآية4].. فتفطن! ولا تغتر باللسان المعسول، وتغفل عن سيرة صاحبه مع حكم الشريعة، ودأبه على حرب حدودها وما يمت إليها، حرباً لم يدع لك معها عذراً في الغفلة مع تلك السيرة المطردة! فاستفق ويحك وتنبه لعصابة أوهت عرى الدين، وأنت لا تزال تخاصم عن الخائنين! {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً * وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 109-111]. ________________ (1) تفسير القرطبي 9/263. (2) تفسير الطبري 15/537. (3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 13/222.