يقول أدونيس:(لم يكن القرآن رؤية أو قراءة جديدة للإنسان والعالم وحسب، وإنما كان أيضاً كتابة جديدة، وكما أنه يمثل قطيعة مع الجاهلية، على مستوى المعرفة، فإنه يمثل قطيعة معها على مستوى الشكل التعبيري، هكذا كان النص القرآني تحولا جذرياً وشاملاً، به وفيه تأسست النقلة من الشفوية إلى الكتابة، من ثقافة البديهة والارتجال إلى ثقافة الروية والتأمل، ومن النظرة التي لا تلامس الوجود إلا في ظاهره الوثني، إلى النظرة التي تلامسه في عمقه الميتافيزيائي وفي شموله نشأة ومصيرا ومعاداً).. كلام جميل لكنه يتوقف هنا ولا يسترسل، لأن التفاصيل لن تخدمه.. فهو يريد توظيف تلك الجزئية الرائعة لهدف إيديلوجي ضيق هو محاولة جعل القرآن سبب قدسية الشعر الجاهلي وجعله أنموذجاً كاملاً يقاس غيره عليه، لذا لم يتطرق إلى تفاصيل الآلية الكتابية العجيبة التي أنشأها القرآن، ولا إلى النقلة الهائلة التي أحدثها.. نقلة تحتاج عند بقية الأمم إلى قرون، قطعها النبي عليه الصلاة والسلام في عقد واحد.. نقل العرب في عشر سنوات مدنية من الثقافة الشفوية إلى الثقافة الكتابية العميقة.. نقلهم من أمة تتردد ما بين اللسان والأذن.. إلى أمة التفكير والاجتهاد والتأمل والاستنباط والقياس والاستقراء والفتوحات والمعاهدات والقوانين والأنظمة، فتعيينه عليه السلام لأكثر من أربعين كاتباً للوحي، يعني أن أضعاف، أضعاف هذا العدد أصبحوا في عداد المثقفين، فالقرآن ليس مجرد وعظ وإرشاد.. إن من يكتبه ويقرأه.. يكتب ويقرأ خطاباً عقائديأ وفقهياً واجتماعياً وتربوياً ونفسياً ووعظياً وعسكرياً وسياسياً واقتصادياً و... و...، ليتحول هؤلاء المثقفون إلى مبدعين في تلك الخطابات التي تحولت إلى تخصصات وعلوم لم تعرفها العرب قبل القرآن، فهم لم يبنوا قبله مدرسة أو يؤلفوا كتاباً، بل لم يكن لهم قبله دولة توحدهم. القرآن الكريم هو الذي خلق العقل العربي وغير الزمن العربي وأوجد الكتاب العربي وأثرى حياة العرب، وجعلهم يطرقون أبواب الصين وأعماق أوربا في أقل من قرن.. دخل حملة القرآن إلى (أوروبا محاكم التفتيش) من باب الأندلس فأدخلوا معهم الفلسفة، فطوعتها الكنيسة وانتقت منها ما تريد ثم أصدرت قوانين الحرمان الشهيرة للبقية التي تنسفها، أما بوابة الظلام (القسطنطينية) التي أسدل منها قسطنطين عباءة الليل على أوروبا لألف عام كما يؤرخ أستاذ القرون الوسطى (كولتون)، فدخلها القرآن عام 1453م ليجعلها مدينة أنوار، وتاريخ فتحها هذا، هو ما يسميه الأوروبيون بداية عصر النهضة، حيث دشنوا معهم ثقافات عديدة منها ثقافة الاستقراء والعلم التجريبي، لكن أكثرها تأثيراً ثقافة (اللا كهنوت).. ثقافة المسؤولية الفردية، فلا رجال دين ولا أحد يحول بينك وبين الله أو يمنعك من فهم كتابه أو يمنحك صك غفران أو صك نيران.. ثقافة أثارت (لوثر) فزلزل بها أوروبا. واليوم نحن من معرض كتاب إلى آخر في عالمنا العربي، وما زالت العقول والأقلام تطوف بالقرآن منذ أكثر من 1400 عام، وعلى عكس الكتب المقدسة التي سبقته، والتي ضاع أصلها فغيرتها الترجمات، واللفائف المكتشفة، والتجارة بالنسخ المنقحة والمعدلة وإزالة الأقواس المقتبسة، واقتحمها التراث الشعبي والأساطير باعترافهم هم.. على عكس ذلك تجد القرآن بلغته الأولى ونسخته الوحيدة في كل معرض.. ما زال هو الكعبة الذي تطوف حوله الأغلبية الساحقة من العناوين المرصوفة.. عناوين تمجده، وعناوين تفسره، وعناوين تستضيء وتبدع به، وعناوين تحاول اكتشافه من جديد وأخرى تقدم قراءة أخرى له، وعناوين تحرر به وأخرى تستغله، لكن أفشلها على الإطلاق وأسرعها شهرة فموتاً هي تلك العناوين التي تناصبه العداء.