مر المجتمع السعودي بتحولات كثيرة أعادت تشكيله وتشكيل الخطاب الذي يحمله ويريد أن يصدّره للعالم باعتباره يحمل القيم التي تربى عليها أبناء المجتمع المحلي وهو في مجمله خطاب محافظ وتغلب عليه القيم الدينية أكثر من غيرها حتى إن الخطاب الديني توسعت دائرته كثيراً وخرج عن صورته المعتادة إلى إطار أكثر حركية في فترة الثمانينات والتسعينات الميلادية مع الخطاب الصحوي، وأصبحت مظاهر التدين في أكثر من مكان في الشارع وفي المدرسة وفي الملتقيات الاجتماعية والثقافية وغيرها. وظهرت في الساحة أسماء جديدة من الدعاة الشباب في خطاب جديد كان له بعض التأثير على طرائق تفكير المجتمع، مع انتصارات "المجاهدين الأفغان" في الحرب على المحتلين الروس، والتي كانت تلهب حماس الشباب المسلم في الأقطار الإسلامية كلها فضلاً عن شباب الصحوة في الداخل السعودي. في تلك الفترة كانت التنمية السعودية في أوج عزها، وأدت الطفرة الاقتصادية إلى تحولات كبيرة قادت المجتمع إلى أن يصبح من أهم المجتمعات من الناحية الاقتصادية، وقد أثر ذلك على بنية المجتمع نفسه حتى أصبحت مظاهر المدنية الحديثة في أكثر من بقعة وغيرت تركيبة المجتمع من مجتمع محافظ إلى مجتمع مفتوح أو يرغب بمظاهر الانفتاح على الأقل عند الطبقات الغنية أو التي في طريقها للثراء، واحتك الناس بشكل لافت جداً وبسرعة كبيرة مع مختلف الأطياف الاجتماعية الأخرى ولقد كان تيار الحداثة أو تيار التجديد هو الممثل للتحديث الجديد في مجتمع السعوديين. ولقد كان الصراع الفكري بين الخطابين: الحداثي والصحوي في فترة الثمانينات هو الحالة الطبيعية لمجتمع يبحث عن الانفتاح داخل إطاره التقليدي السابق على ذلك، وحتى يومنا هذا يكاد ينحصر هذا الجدل الفكري بين تيار الانفتاح وتيار المحافظة على اختلاف الأطياف داخل كل جهة. وامتداداً لتلك الفترة من الصراعات الثقافية والجدل الفكري على تشكيل المجتمع كان هناك اسمان من أهم الأسماء في التسعينات على الساحة الثقافية بكل ما تحمله كلمة الثقافة من اتساع. كان الدكتور غازي القصيبي بكل ثقله الثقافي والوزاري، وكان الشيخ سلمان العودة بكل ثقله الديني والمنبري، والرجلان كانا ومازالا، على الكثير من التغيرات، يحظيان بجماهيرية عريضة جداً.. القصيبي يعتبر الممثل لتيار التحديث كما أنه هو الممثل لأحد تمظهرات الطفرة على أفراد المجتمع بحيث عزز من قيمة تحولات الطفرة وكان هو أحد أهم الأسماء الوزارية التي فعلت الجانب الخدمي للمواطنين هذا غير فاعليته الثقافية في أوساط المثقفين، فيما كان العودة هو الممثل الصحوي والاسم الأبرز في الجهة المقابلة للقصيبي بخطبه المنبرية ذات النبرة العالية النقد في حين كانت حرب الخليج قد أفرزت الكثير من التشظيات المجتمعية والدولية على حد سواء، وقد تأثرت جميع الخطابات الثقافية والدينية بتلك الحرب وما أفرزته فيما بعد. كان هناك الكثير من القضايا الدينية والاجتماعية تثير الجدل بين الرجلين. كان سلمان يلقي بعض المحاضرات المسجلة على أشرطة الكاسيت وكان غازي يرد عليها ويحاول أن يناقض منطلقاتها الفكرية في كتابه الشهير "حتى لاتكون فتنة"، حتى انتهى الجدال بين الطرفين بغياب سلمان المعروف، ورحيل غازي إلى خارج الوطن سفيراً في لندن وكانت المعادلة لاتزال كما هي عند الكثير من المثقفين من جهة والصحويين من جهة أخرى. بعد عشرين عاماً من ذلك الجدل تتبدل الأحوال وتتغير الخطابات وينتقل خطاب التشدد الديني إلى خطاب الوسطية ويعيد الكثير الرؤى في القضايا المطروحة سابقاً وينقلب البعض على كل تلك الفترة ويعتبرها فترة حماس ديني كان خاطئاً بنوع من الندم والقيام بالعديد من محاولات التصحيح ثم ليصبح فرقاء الأمس رفقاء اليوم والصراع الفكري يتبدل إلى ود ومغازلة ثقافية. قبل أيام قليلة يرسل غازي القصيبي قصيدة إلى سلمان العودة فيقول: لا تسأل الركبَ بعد الفجر هل آبُوا الرَّكبُ عاد وما في الرَّكبِ أصحابُ تفرَّقوا في دروب الأرض وانْتَثَرُوا كأنَّه لم يَكُنْ عَهْدٌ وأحبابُ ما في العَناقيد من أشعارهم حببٌ والخمر من بعدهم في دنها صابُ يا طارق الباب رفقًا حين تَلْمَسه لو كان في الدار خِلٌّ صفَّقَ الباب بعضُ الدروب إلى الأوطان راجعةٌ وبعضُها في فضاء الله يَنْسَابُ ومن جهته يرد سلمان بقصيدة مشابهة لكشف الود العميق بين الرجلين بعد عشرين سنة: ضِيَاءُ عَيْنَيْكَ عبر الحرف ينسابُ تَئِنُّ من حُزْنه المكظوم أهدابُ الكَرْمُ أنت؛ فهل في الكأس من عَلَلٍ يُسْقَى به في هَزِيعِ الليل غُيَّابُ هل سال بعدكمُ الوادي، وهل سجعتْ على الحِمَى من حَمَامِ الأَيْكِ أسْرابُ؟ ساعاتُ صفوٍ أَلَمَّتْ، والهَوَى قَدَرٌ كأنها من عَبِيرِ الوَصْلِ تَسْكَابُ طابتْ لياليكَ، والرحمنُ يُنْعِشُها وجادَ بالرَّوح والتَّحْنَانِ وهَّابُ أبيات القصيبي والعودة هي تتويج لمرحلة التصالح والتسامح والصحبة الفكرية لتكون شاهداً لتحولات المرحلة الحالية والتي اختلفت بكثير عن عشرين سنة مضت كان فيها ما فيها من احتدام وصدامات فكرية بين النخب الثقافية والنخب الدينية في المجتمع والتي كان من المفترض أنها لم تكن لولا أن تلك المرحلة كانت تحمل في طياتها الكثير من الحراك الصحوي وهذا يدل على أن حيوية المجتمع السعودي تتجدد كل فترة فهو في تبدل مستمر قد لاتكون هذه هي المرحلة الأخيرة وإنما هي إحدى المراحل المهمة في مسيرته الثقافية والتنموية والفكرية.