مشاري الذايدي * الشرق الأوسط اللندنية المشهد المجتمعي مثير للمفارقة بين الكويت والسعودية. في الكويت، حيث البرلمان والديمقراطية والجماعات السياسية والصوت العالي وتاريخ المسرح والفنون، تتنادى مجموعة من نواب البرلمان وحشد من شيوخ الإسلاميين لمناصرة خطيب ديني سعودي مُنع من دخول الكويت، حسب آخر روايات الحكومة، خوفا من إثارة الفتنة الطائفية، بعد تهجم هذا الشيخ، محمد العريفي، على مرجع الشيعة علي السيستاني. قرأت بيان هؤلاء الكويتيين في الصحافة الكويتية، جلهم غير مشاهير، ولكن بيانهم متجه نحو وجهة واحدة: المناصرة من موقع طائفي، وعزز هذه المناصرة الدينية مناورات سياسية لفظية كقول بعض نواب الإسلاميين، وليد الطبطبائي، إن هذه مشكلة بين العراقيين وشيخ سعودي، «شدخل الكويت؟!». وبعض النواب يسن سكاكينه لمحاسبة الحكومة على هذا المنع «المحرم» للعريفي. بداية من حق أي دولة في العالم منع من ترى أجهزتها الأمنية أنه يسبب مشكلة وقلاقل في البلاد ويضر بأمنها العام، ولذلك منعت الحكومة الكويتية في وقت سابق رجل الدين الشيعي الإيراني محمد الفالي، لأنه كان يمارس التهييج الطائفي ويلقي خطبا متعصبة ضد السنة، في بلد صغير محتقن بالتعصب الطائفي خصوصا في الأعوام الأخيرة، وبسبب منع الفالي غضبت فعاليات شيعية كويتية، والآن يشعر أنصار الفالي بأنهم «سجلوا هدف التعادل» في مباراة الطائفية مع خصومهم بمنع العريفي من دخول الكويت، ردا على منع الفالي في وقت سابق. مشهد مخيف، والحكومة، أي حكومة في العالم، لا تستطيع التفرج على مباراة تعصب دموية تفتت البلاد وهي لا تحرك ساكنا، أسهل الحلول هو منع هذا الطرف وذاك الطرف كنوع من فض الاشتباك المؤقت، لكن هذا الحل غير كاف، وسيستدعي المزيد من الاحتشاد لرد الضربة وتسجيل هدف الفوز حتى تنطلق صافرة الحكم معلنة نهاية الوقت، وقت الجميع، وربما نهاية السلم الاجتماعي معها لتثور ثائرة الجماهير المشاغبة التي لم ترض بنتيجة المباراة فتحرق وتكسر وتضرب وترمي بشرر.. كما يجري عادة من متعصبي الجماهير. للأسف، جماهير الشيعة والسنة، في الكويت وغيرها، ينشغلون بتصفية الحسابات التاريخية وتبيان من هو الأحق والأهدى طريقا وماذا جرى في التاريخ قبل أكثر من 1400 سنة، رغم أن مشكلاتنا هي «الآن»، وحول قضايا تتصل ببناء الأوطان وبناء الحاضن الاجتماعي الفكري للجميع، وترميم فكرة الوطنية والمواطن بعدما تمزقت مزقا بين الطائفية والعشائرية والإقليمية والعرقية، وأصبح الحديث في بلد مثل العراق أو اليمن أو الصومال أو أفغانستان، عن الرابطة الوطنية الواحدة، أصبح حديثا يبعث على الضحك ولكنه ضحك كالبكا. بالعودة إلى مفارقة الكويت العجيبة، كيف نفهم أن يزايد تلاميذ المشايخ على أساتذتهم، كما يتحدث كثير من طلبة العلم الديني في الكويت عن تلقيهم العلم من مشايخ السعودية، دلالة على صحة المنهج، يزايدون ليس في مسألة منع العريفي فقط، فهي مسألة ربما تفهم في سياق التراشق الشيعي السني داخل الكويت، وهو تراشق لا تبدو له نهاية منظورة، أسوة بالعراق الجار الجريح، لكن في مسألة أهم لا علاقة لها بالصراع الطائفي، أعني مسألة المرأة. قبل ذلك أشير إلى أنني أدرك أن قطاعا عريضا من «طلبة العلم» من إسلاميي السعودية يناصرون كل طرح متشدد ويحاربون كل طرح تسامحي جديد، لكن يظل هذا حراكا مفهوما داخل الحالة السعودية، غير المفهوم هو حماسة الرد من إسلاميي الكويت على مجتهدي السعودية من المشايخ، فهذه حماسة غريبة، وعجيبة من عجائب الزمان. الكل راقب في السعودية هذا الحراك الإيجابي والمثير داخل صفوف المشايخ وطلبة العلم الديني حول مسألة المرأة ودورها في المجتمع ورفع الإصر والقيود الوهمية عليها، وكانت الذروة في تصريحات الشيخ أحمد بن قاسم الغامدي رئيس هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في منطقة مكةالمكرمة، ليست تصريحات فقط بل دراسة شاملة حول مفهوم «الاختلاط» الذي يتذرع به كثير من أنصار التضييق على المرأة ودورها وفرصها في العلم والتنمية، فكانت الإضافة القوية لهذا الشيخ هي في إثباته أن الاختلاط مفهوم محدث و«مبتدع» في الفقه الإسلامي، وأنه لا يعلق على الاختلاط حكم بالتحريم أو الإباحة، فمجرد الاختلاط لا يتعلق به حكم بل بما يضاف إليه من أوصاف وظروف.. وهكذا في دراسة على حلقات نقد بها التشدد في موضوع الاختلاط، نشرت في صحيفة «عكاظ» السعودية المحلية، وبطبيعة الحال لاقت دراسته ردود فعل مؤيدة ومعارضة، هذا شيء طبيعي ومعروف عند كل إنسان يأتي باجتهاد ورؤية مخالفة للمألوف، وما قام به رجل قيادي في جهاز ديني رقابي مثير مثل جهاز الهيئات وفي منطقة ذات مكانة معنوية كبرى لدى المسلمين هي منطقة مكة، يحمل الكثير من الدلالات والإيحاءات، لذلك ما زالت اجتهادات الشيخ الغامدي محل نقاش وتجاذبات، الغامدي لم ينفرد بهذا الكلام بين رجال الصف الديني العلمي، بل قال مثل ذلك، بأكثر من صيغة، أكثر من شيخ وفقيه منهم القاضي الشيخ عبد اللطيف الحارثي الذي صرح بكلام سهل وسلس بأن الاختلاط: «كلمة حديثة وذات مفهوم متسع، ولا يناسب أن نعطيها حكم المنع بشكل عام ومطلق دون تفصيل، فلفظ الاختلاط مضطرب وغير دقيق متى حُكم بأنه محرمٌ جملة وتفصيلا، إذ وجد من يقول: إن الاختلاط محرمٌ أشد تحريم، وهذا من القول على الله بلا علم، ومن الاستعجال في الأحكام بلا دليل، فلا بد من السبر والتقسيم وإعطاء كل جزئية حكمها الصحيح». أهمية مثل هذه المواقف من مثل هؤلاء الرجال في مثل هذا الوقت والمكان، هي أنها تساعد كثيرا في تذليل العقبات المعنوية والنفسية لدى المجتمع وتسهم في دفع عجلة التنمية والأهم أنها «تطبع» وضع المرأة المسلمة في مجتمعها السعودي وتختار الأيسر والأسلم من سلة الاجتهادات الفقهية في هذا الزمن، وكالعادة هناك من يكره الجديد ويحذر من التغيير ويظن به الظنون، ولا يجد له مخرجا إلا بأن يتفّه أو يشوه هذه الاجتهادات حتى يظل المجتمع كما هو في نظره. يظل هذا حراكا صحيا في بلد ضخم ومجتمع ثري مثل السعودية، نحن الآن في خضم هذه الاجتهادات والنقاشات التي هي دلالة حيوية المجتمع وتفاعله مع زمانه، لكن المثير في الكويت التي يفخر كثير من مثقفيها بحريتها ونموذجها السياسي، وهو أمر صحيح وفخر في محله، لذلك يطرح السؤال: كيف تمضي ساعة المجتمع السعودي باتجاه معاكس لساعة المجتمع الكويتي؟ هناك في الكويت، وليس في السعودية، من تصدى للهجوم على الشيخ الغامدي وأمثاله، في مسألة الاختلاط، وقالوا بأنها انحراف عن الصواب والهدى، أو بما معناه، وهو ما يعني أنهم يريدون المزيد من التشديد على المرأة الكويتية في اللحظة التي وصلت المرأة الكويتية فيها إلى قبة البرلمان.. أي فوضى فكرية وفقهية هذه؟! كيف يريد هؤلاء اختزال الإسلام في قائمة من التحريمات والمحظورات، في حرب الشرعية والفضيلة وبرمجة عقل المجتمع على إيقاع تحريمي مرتاب؟ كيف ارتد العقل من حماسة العقل والانفتاح والإبداع إلى ما نراه اليوم من صراعات طائفية وغضب من دراسة شيخ سعودي يريد التيسير على المرأة المسلمة، ضمن الشرع؟ أمر غريب فعلا ما نراه من تقلبات الأيام، وللمفارقة أيضا، كنت أقرأ هذه الأيام مختارات من مجلة الكويت انتقاها المؤلف خالد الزيد وأغلبها بقلم مؤسس المجلة الشيخ عبد العزيز الرشيد الذي أسسها (1928)، وهو من رموز الإصلاح الديني في الكويت بل وفي الخليج كله، هو وشيخه يوسف القناعي الذي كان من أنصار التحديث والإصلاح ومحاربي التزمت والجمود، ولاقى الشيخ وتلميذه عنتا من أنصار التعصب، حتى إن التلميذ غادر بلده فترة ما، وقد هدد بالقتل. أقرأ في هذه المجلة قبل أكثر من ثمانين عاما مقالات تنضح بالاعتدال والتسامح والشعر والأدب والأمل بمستقبل منير.. ليت الشيخ الرشيد يبعث من رقدته ليرى أي شواغل وهموم ينشغل بها الفاعلون السياسيون. المشكلة في الحقيقة ليست مشكلة الكويت، بل هي مجرد مثال على هذه المشكلة، فما يجري في العراق أدهى وأمر، وما يجري في الساحة الشيعية عموما ليس إلا ازدهارا مريعا لأحقاد التاريخ والتفكير الأسطوري، ومن يراقب الفضائيات الأصولية، يرى العجب العجاب من تخدير العقول وبعث الأحقاد. هي مفارقة فقط أردت الوقوف عليها بين زمن حي ويتحرك، ولو ببطء، وهو زمن المجتمع السعودي نحو التجديد، وبين زمن آخر، مجاور، جامد وخائف، وللقارئ أن يفسر هذه المفارقة، أنا أدونها فقط.. والأمل يغمرني بغد أبهى وأعقل للجميع.