أحمد عبدالرحمن العرفج - نقلا عن صحيفة المدينة للمُدن تَاريخ، وللأمَاكن ذَاكرة، وللجُغرَافيا حدود، وللتَّأليف عَن كُلّ مَا سَبق شروط وقيود! وفي ذَاكرة الأماكن -التي يَتنقَّل فيها صَاحب هذا القَلَم- قصص تُروى، ومَعلومات تُحكى! ونَظراً لأنَّ مدينة جُدَّة –حيثُ القَلب- ومدينة بريدة –حيثُ الولادة-؛ مِن المُدن التي أَتعهّدها بالزّيارة والعبارة، والكِتَابة والقراءة، و«أمون» عليهما بالنَّقد، فقد عَلمتُ عَن قصّتين مُختلفتين؛ حَصلتا لكِتَابين أُلِّفا عن هَاتين المَدينتين، وكُلّ كِتَاب مِن هذين الكِتَابين تَعرّض لمُضايقة رِقَابيّة مِن المجتمع، بحيث تَصبح وزارة الثَّقافة والإعلام بَريئة؛ بَراءة المدرب «كالديرون» مِن انخفاض مستوى فريق الاتحاد! حَسناً، لنبدأ بالكِتَاب الأوّل، وهو كِتَاب «الحِرَفيّون في جُدَّة» –بضم الجيم- للأستاذ «وهيب أحمد كابلي»، وهذا الكِتَاب جميل في شكلهِ ولونهِ ومضمونهِ، حيث استقصى «الحِرَف» في جُدَّة مِثل: (التُّجار والصيّادين، والخطّاطين والصّيارفة، وأهل الذَّهب والحمّالين، والبنّائين والخرّاطين، والنّجارين والسّبحجيّة، والقمّاشين والجوهرجيّة، والطبّاخين والقهوجيّة، والعطّارين والجزّارين، والمغنّين والمُطربين، والمُنشدين والدبّاغين، والسَّمكريين والجبَّايين، والدَّخاخنة والخرّازين، والحدّادين والخيّاطين، واللبَّانين والنحّاسين).. إلخ، والجميل أنَّ الكِتَاب اعتبر الفُقهاء والمُؤذِّنين والأئمَّة مِن أهل الحِرَف! وفي الفصل الرَّابع، أجرى المُؤلِّف أحاديث وذكريات؛ مَع عَمالقة التَّاريخ التُّجاري في جُدَّة، مثل الشّيخ إسماعيل أبوداوود، والشّيخ محمد علي مغربي، والشّيخ محمد سعيد متبولي -عليهم رحمة الله-. والكِتَاب جَميل في سَرده، وذكرياته والتقاطاته، ولا يُغني هذا المقال عن قِراءته، بل هو يُذكِّر أهل الذِّكر للاطّلاع عليه! حَسناً.. ولكن ما الذي يُريد أن يَقوله هذا المَقال؟! إنَّ المَقال يُريد أن يَقول: إنَّ هذا الكِتَاب مُنع لمدّة سنوات طَويلة؛ بعد أن صَدرت طَبعته الأولى، والسّبب أن حِرفَة «العَربجيّة» كانت تَتولَّاها أُسرة فَاضلة، اعترض أهلها عَلى وَضع اسمهم؛ بوَصفهم أصحاب هذه المهنة، فجاءت فقرة «العَربجيّة» خالية مِن ذِكر أي أسماء، وليس فيها إلَّا رَسمة جميلة، لأستاذنا التَّشكيلي الصَّديق «هشام بخاري»! والغريب أنَّ كلمة «عربجيّة» تَدلّ على حِرْفَة راقية، تُعادل الآن «الطيّار»، و «سائق الحافلة»، أو «سوّاق الخط»، لأنَّ الكلمة هي عبارة عن: «عَرَبة» مُضافاً إليها وَصف «جي»، الذي يَدل عَلى حِرْفَة في اللغة التركيّة! حَسناً.. ماذا بقي..؟! بقي القول: إنَّ هذا الكِتَاب جَلس «رَهين المنع» لسنوات، بسبب «رقابة المُجتمع» في «جُدَّة»، وسنَستكمل في الغد قصّة كِتَاب آخر، تأخَّرت الموافقة عليه مِن باب الغيرة الاجتماعيّة على مدينة «بريدة»! . وللحديث صلة... العَربَجيّة” في جُدَّة.. و“زراعة الدُّخان” في بريدة..! . الأحد, 17 يناير 2010 أحمد عبدالرحمن العرفج بالأمس كَان الحديث عَن كِتَاب «الحِرَفيّون في جُدَّة»، ومُلابسات مَنعه لسَنوات، نَظراً لأنَّ أسرة كَريمة كَانت تَحترف مهنة «قيادة العربات» رَفضت ذِكر اسمها –كما يَروي العَارفون ببواطن الأمور- فتَأخَّر الكِتَاب لسَنوات، ثُمَّ نَزل ضَامًّا هذه الحِرْفَة، ولكن مِن غير أسماء! أمَّا كِتَاب «مَشاهد مِن بريدة»، لشيخنا الفاضل والرحَّالة الصَّائل الجَائل، «محمد بن ناصر العبودي»، فقد وَاجه تَعنّتاً مِن مُراقب المَطبوعات في وزارة الثَّقافة والإعلام - حسب ما يَروي ذلك الثّقات - لأنَّ فيه ذِكر لقصّة زراعة «التّتن» و«الدُّخان» في بريدة! والطَّريف أنَّ مُراقب المَطبوعات هذا؛ اجتهد –وليس كُلُّ مُجتهدٍ مُصيب - في أن يَحذف هذه القصّة، بحجّة أنَّها لا تَليق بمدينة؛ عُرف أهلها بالتَّديّن والوَرَع، لدرجة أنَّ أهل الحجاز كانوا إذا رَأوا شَخصاً مُتديّناً سمّوه «مطوّع بريدة»! حسناً، لنَعُد إلى الكِتَاب – وهو بالمناسبة مَفسوح، ويُباع في بريدة - حيث يَقول الشّيخ «العبودي» في ص 125: (و«قُبّة حَبَص» هذه كَان فيها رَجُل؛ يُقال له «الصنَّانة»، يبيع أوراق «التّتن» من إنتاج القصيم، إذ كان يُزرع فيها، وهو مشهور بذلك لا يستخفي فيه)! ثُمَّ يذكر المُؤلِّف قصّة والده، مع أحد زارعي «التّتن» في قُرى «الجواء»، ويَختمها بقوله في ص 127: (وبهذا نَعرف أنَّ التّتن -الذي يُراد به هنا ورق التَّبغ- كان يُباع في بريدة، ولم يَكن النَّاس يَعرفون «التّتن»؛ إلَّا ورقاً يُنتج في أطراف القصيم، أو يَأتي مستورداً مِن العراق، ولم يَكونوا يَعرفون لفافات التَّبغ، وإنَّما كان أكثرهم يَأخذون عَظماً مِن قَائمة الذّبيحة، مِثل ذراع الخروف، أو رِجْل الشّاة، فيَجعلونه بمثابة الأنبوب «غليون» يَملأونه بورق التَّبغ، ثم يُوقدون طَرفه ويدخّنونه)! (انتهى نص الشّيخ العبودي).. حسناً.. ماذا بقي..؟! بقي القول: إنَّ قراءة سيرة الأشياء وبداياتها، تَكشف لنا وَجهاً آخر للتَّاريخ والجغرافيا، وانصهارهما مع الإنسان، كما تُبيّن الحقائق.. وكم كُنتُ سَاذجاً – وأنا طفل- حين قِيل لي: إنَّ الحجازيين هُم مَن أدخل الشّيشة «الخبيثة» إلى نَجد، ولكن عندما قَرأت شعر الشَّاعر؛ أو «المُؤرِّخ الشّعري» «حميدان الشويعر»، أدركتُ أنَّ أهل نَجد يَعرفون الشّيشة مُنذ قرون طَويلة، والغريب أنَّها جَاءتهم مِن الهند، وليس مِن الحجاز! يقول «حميدان» لصاحبه: مد لي بإحدى يديك فنجان القهوة، وبيدك الأخرى «البربورة» أي الشّيشة، وهذا نص بيته: مد لي يد فيها الفنجال ويد فيها البربورة..! والله مِن وراء القصد،،،