لعله من الأهمية هنا الإشارة إلى أن مصطلح "الحداثة" في المشهد الثقافي العربي هو امتداد لمصطلح آخر ساد تسويقه بلا منازع له ، حتى آواخر ثمانينيات القرن الماضي ، و هو مصطلح "التنوير" . وواقع الحال أن الحداثة حلت محل التنوير ، منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين ، بعد أن أفرزت المواجهات الفكرية بين الإسلاميين و العلمانيين في عقدي السبعينات و الثمانينيات من نفس هذا القرن الأخير ، عددا من الحقائق بشأن "التنوير" ، وانتهت باحالته إلى سلسلة المصطلحات ، التي استقرت في الضمير و الوعي العربيين ، على أنها مصطلحات "سيئة السمعة". لقد استشعر العلمانيون العرب بعد ما أصاب مصطلح "حركة التنوير العربي" ما أصابه من تشكيك في نواياه الحقيقية بأن ثمة ما يتهدد "شرعية" حضورهم ك"نخبة" تتصدر النشاط الثقافي العام ، فنظموا في مطلع التسعينيات ، عددا من الاحتفاليات المتباينة في آليات و طريقة التعبير عن أهدافها ، لإعادة الهيبة و الاعتبار لمصطلح "التنوير" : ففي عام 1990 نظم "معرض القاهرة الدولي للكتاب" و عقدت ندواته و مؤتمراته ، تحت شعار " مائة عام على التنوير" . و في عام 1992 احتفلت دار الهلال كذلك بمرور مائة عام على ظهور مجلة الهلال ، و تم الاحتفال تحت شعار :" مائة عام على التنوير" ، و في عام 1993 كثر الكلام في وسائل الاعلام المصري و بشكل لافت و غير مسبوق عن قضية التنوير ، و لأول مرة في تاريخ دور النشر في العالم ، بادرت الهيئة العامة للكتاب بأصدار سلسلة من الكتب كل يوم كان يصدر منها كتاب و بثمن زهيد جدا (25 قرشا مصريا ! ) كانت جميعها تحمل عنوانا واحدا :"التنوير" . و تحدثت في جلها عما أطلقوا علية "محنة التنوير" ، و أجمعوا جميعا على "أن مشروع التنوير تحول على يد المد الإسلامي و اليقظة الإسلامية إلى "محنة للتنوير!!" و اللافت أيضا أن غلاف الكتب كان يحمل بجانب كلمة "التنوير التي كانت ترد في مربع أسفل الغلاف و على يمينه لافتة كبيرة تمتد بعرض الغلاف كله من يمينه إلى يسارة ، مكتوب عليها كلمة "المواجهة" ، في إشارة منها إلى مواجهة التيار الإسلامي الذي اتخذته "عدواً" ل"التنوير". فالحداثة ، هي في واقع الحال ، سليلة عائلة "التنوير" ، من حيث البيئة التي أفرزتهما و هي أوربا أو من حيث الإيحاءات و المضمون المعرفي و هو العداء لأية سلطة لله سبحانه و تعالى على عباده . و بالنسبة لهذا العداء تحديدا فليس ثمة فارق بينهما : فالتنوير منذ ظهور "فرنسيس بيكون" ، الذي تعود إليه جذور التنوير في القرن السابع عشر ، إلى ظهور مفكري عصر التنوير في القرن الثامن عشر ( فولتير ، روسو ، مونتسكيو، هيردر ، ليسنج ، شيلر ، جوته ، كانت ) ، و هو يحمل معنى واحداً وكما يقول د. عمارة: أن يحل آلهة التنوير (وهي العقل و العلم و الفلسفة) محل الله و الدين . إنكار الغيب و البعث و الجزاء الأخروي .. و النفس ليست إلا حياة الجسم ، تفنى بفنائه .. و ليس هناك وحي مقدس سوى الطبيعة ، و لقد انتزعت هذه الحركة من صدور الناس توقير مقام الألوهية ، و عندما قامت الثورة الفرنسية على مبادئها قالوا آنذاك " إنهم أنزلوا الله من ملكوته و الذين يكتبون عن التنوير في عالمنا العربي فانهم يقصدون هذا المضمون ، يقول د.مراد وهبة و هو واحد من أبرز المدافعين عن التنوير : " التنوير يعني أنه لا سلطان على العقل إلا على العقل " إذن لا غيب ، ولا وحي ، و لا شريعة ، و لا إله و لا دين فكل هذه السلطات لا يعترف بها هذا المضمون ، الذي كتبه وهبة عن التنوير و لعل هذا التطابق بين المفهومين هو الذي حمل العلمانيين العرب على تجريب مصطلح "الحداثة" لتعويض خسارتهم الكبيرة فيما اعتبروه "محنة التنوير" ، بيد أن الأول أصيب هو الآخر بمحنة أشد قسوة من تلك التي أصابت الثاني ، مع أول صدام مباشر له مع الرأي العام ، عام 1992 وهو ما سوف نتحدث عنه السبت المقبل إن شاء الله تعالى