لعل المتابع للسجال الدائر بين بعض الفقهاء، وطلاب العلم، والمثقفين حول قضايا الاختلاط، وكشف الوجه، وغيرها، سيلحظ بروز ظاهرة التعصب، والإقصاء، أو (التجهيل)، وما كان ذلك (ديدن) العلماء الأوائل الذين كانوا أكثر تسامحاً. وقبولاً للرأي الآخر، دون اللجوء إلى لغة الانتقاص والتعصب المذهبي البغيض. فتلك القضايا التي أشبعت بحثا، وتدقيقاً، واستجلاء للدليل المتفق عليه ليست قضايا جديدة، ولذا فإن المعاصرين من الفقهاء والمثقفين لم يأتوا بجديد، فهم مجرد (نُقال) للآراء القديمة التي طرحت، إذ لم يترك الأولون للآخرين ما يقولونه، إلا (التعصب) لرأي دون آخر، أو لعالم ومذهب معين. وفي زعمي أن (مصائب) الأمة الإسلامية، ومصدر خلافها منذ القدم ليس في (النص المقدس) بل في تفسير ذلك النص أو تلك الأحاديث الشريفة خاصة وإن أيا من العلماء المتقدمين والمتأخرين لم يدعوا أنهم وحدهم الذين يملكون مفاتيح الحقيقة المطلقة التي تخولهم بالقول الفصل. (فقولك صواب يحتمل الخطأ، وقول الآخر خطأ يحتمل الصواب)، عدا عن أن (كلا يؤخذ منه ويرد عليه إلا الرسول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه. فلا عصمة لأحد، ناهيك عن أن القرآن نفسه (حمال أوجه) كما قال سيدنا (علي) حين بعث أحد الصحابة لمحاورة (الخوارج) ولعله (أبو موسى الأشعري): لا تحاورهم بالقرآن فهو (حمال أوجه)! هذه المقدمة، رغم أهميتها، ليست مبتغاي من كتابة هذه السطور، بل لعل ما أهدف إليه يتعلق بما لاحظته من خلال مطالعاتي لتلك الحوارات من بروز (نغمة) التعصب المذهبي والإقليمي والذي يطل من خلال ردود بعض العلماء وطلاب العلم على مخالفيهم الذين يستشهدون بآراء علماء عظام من خارج بلادنا في مسألة الاختلاط، وكشف الوجه للمرأة وغيرها من القضايا المطروحة اليوم.. كالشيخ العالم (القرضاوي) والعلامة (الغزالي) والفقيه (الشوكاني) وحجة الإسلام (ابن حزم) والشيخ (الطنطاوي) والعالم المحدث (الألباني) وغيرهم ممن أفتى بجواز تلك القضايا بشروط معينة. مما دفع أحد طلبة العلم لدينا بأن يقول: إن أولئك العلماء قد (خلطوا الحق بالباطل)، مشيرا إلى أن علماء هذه البلاد قد ردوا عليهم، وفي الوقت الذي ذكر أولئك العلماء الأفاضل بأسمائهم المجردة، راح يضفي على من رد عليهم من علماء بلادنا ب(العلامة، العالم، المحدث.. الخ) نغمة التعصب تلك، ما كان لها أن تظهر لو أن طالب العلم هذا قد عرف أن الإسلام دين عالمي وليس خاصا ببلادنا وحدها، والقول فيه لا يختص بعلمائنا وحدهم؛ وليسوا وحدهم ممن يؤخذ العلم الشرعي منهم. هذه إقليمية ومذهبية ضيقة، وتعصب ممقوت نربأ بطلاب العلم الشرعي من الوقوع في براثينها، نحن نُجِلُّ علماءنا ونفخر بهم، كما أننا نُجلُّ علماء الأقطار الإسلامية الأخرى ونعرف فضلهم، ويفوت البعض أن أغلب علماء وأئمة الأمة الإسلامية عبر كل العصور ليسوا من هذه البلاد، بل وبعضهم ليسوا (عرباً) أصلاً كالبخاري ومسلم، والترمذي وابن ماجه والندوي والمودودي والقائمة تطول. نغمة التعصب المذهبي والإقليمي ينبغي ان تختفي من قاموس حواراتنا الفقهية لندلل على مدى تسامحنا الديني، ولتسير مع توجهاتنا السياسية القائمة على التسامح والحوار وقبول الآخر والوسطية والاعتدال.. (وما ذلك على الله بعزيز)!