عجيب كلام ربنا، عجيبة هي إشاراته، فضلاً عن دلالاته. لا تحتاج لأن تكون لغوياً ولا محدثاً، ولا مفسراً كي تعتبر بالقرآن وآياته.. فالإشارات أعمّ من الدلالات. الإشارات هي تلك المعاني الّتي تُقذف في قلبك حين تقرأ أو تسمع كلاماً فيه شيء يربط ذلك الكلام بالمعنى الّذي ينقدح في قلبك.. قد يكون في الكلام دليل عليه، وقد لا يكون له علاقة به ألبتة.. الشرط الوحيد لاعتبار هذه الإشارات أن لا تخالف الشّرع.. فلا يُؤخذ من الإشارات حكم شرعي يحلّ أو يحرّم.. كما لا يُؤخذ منها عبادة أو عقيدة.. إنّ الإشارات سباحة في المعاني العامة الّتي قد شهد لها بالصحة نصوص القرآن والسنة، أو ما اشترك فيه البشر من المعارف والأخلاق والسلوك.. أقول هذا وبيني يدي إشارتان انقدحتا في ذهني عندما سمعت قوله تعالى: (قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيم وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُون). (قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى). تعيش البشرية ضياعاً وشروداً عن الحق.. نحن جزء من هذا العالم الّذي يتفاوت في درجة التّيه بحسب المسافة الّتي تفصل بينه وبين مصدر الحياة: الوحي (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا). كثير منّا ذهب يتطلّب الصّلاح والإصلاح في كلّ مكان.. بعض دعاتنا انغمس في دورات تنمية الذات فضلاً عن البرمجة اللغوية.. وبعضهم يقرأ كثيراً في منتجات الفلسفة الهندية والصينية، وكثير منها يروّج تحت ستار علوم تنمية الذات للأسف.. مع أنّ في أيدينا كتاب لا يأتيه الباطل.. فيه كلّ ما تحتاجه النّفس البشرية للصلاح والإصلاح بلا مرية.. وهذا أمر نراهن عليه كما راهن أبو بكر كفار قريش! المشكلة ليست قصوراً في ما عندنا.. المشكلة الحقيقية هي جهلنا بقيمة ما في أيدينا.. بل غفلتنا أصلاً عنه.. قال شارح الطّحاويّة: «ما جاء به الرّسول كافٍ كامِلٌ، يدخل فيه كلّ حق، وإنّما وقع التّقصير من كثير من المنتسبين إليه، فلم يعلموا ما جاء به الرّسول في كثير من الأمور الكلاميّة الاعتقاديّة، ولا في كثير من الأحوال العباديّة، ولا في كثير من الإمارة السّياسيّة، أو نسبوا إلى شريعة الرسول ماليس منها بظنّهم وتقليدهم، وأخرجوا عنها كثيراً ممّا هو منها، فسبب جهل هؤلاء وضلالهم وتفريطهم، وبسبب عدوان أولئك وجهلهم ونفاقهم كثُر النّفاق، ودرَسَ كثيرٌ من علم الرّسالة» [شرح الطّحاويّة (1 / 1516)]. نحتاج إلى من يعيد توجيه أنظارنا إلى هذا التراث العظيم.. ولو أنّ كثيراً منا يعرف ما سطره أئمّة الإسلام في النفس وعلومها من خلال القرآن والسنة لرأوا عجباً.. وقد كان من سلفنا الصالح من يستعمل مع نفسه ومع من يربيهم أو يوجههم ويعلمهم قواعد وأصولاً تربوية في غاية الرّقيّ.. كيف لا وكلّهم عيال على سيّد الأخلاق صلّى الله عليه وسلّم؟! إشارة أخرى: هذا التردّد والخوف من المواجهة مع الآخرين.. وهذا الوجل والتوتّر الّذي ينتاب كثيرين من كيد المنافقين أو الكافرين.. وبعضنا يقف حائراً بمجرد ما يراه نصراً للمخالفين.. سواء كانوا كفرة أو كانوا من الطوابير (الخامسة).. من العجب حقاً أن نقف حائرين مدهوشين أمام أعمال الذين لا يفقهون ولا يشعرون ولا يعلمون، فنشعر بالضعف بينما لا تأثير لها على الحقيقة إلاّ كتأثير أعمال سحرة فرعون.. كل الدجل والترهيب الإعلامي الذي يصاحب أي فعالية مخالفة للشريعة هدفها صرف النظر، وإشغال أهل الحق عمّا في أيديهم من الحق.. وهو نفس ما وقع لموسى عليه السلام؛ فقد كان غافلاً عمّا في يده على الرغم من أنّه رأى آية الله فيها، ومع ذلك فقد: (أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى) حتى ذكّره الله: (قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى). وليس كيد الساحر فقط هو الذي لا يفلح: بل كلّ كيدٍ باطل لا يفلح ولا يُؤتي ومصيره إلى خسارة وفشل.. كان في يد موسى عصا واحدة.. وقد ترك لنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم عِصياً.. ليس بيننا وبين كسب الجولة إلاّ أن نلقي عصيّنا.. فقط نحتاج إلى الفقه: من يرميها ومتى وأين؟