أحمد عبدالرحمن العرفج - المدينة ها نحن في العيد، والنَّاس -كُلّ النَّاس- يرسمون الابتسامة على وجوههم عدا أهل الثَّقافة! حسنًا.. أنقرأ ما تقول صورهم؟! يقول أحدهم: إِذَا نَظَرتَ صُورَتي تَقرَأ فِيهَا سِيرَتي حَتَّى كأنَّ سِيرَتي مَكتُوبَة فِي صُورَتي! هكذا كَتَب الشَّاعر العراقي الكبير جميل صدقي الزّهاوي -الذي وُلد عام 1863م، وتوفي عام 1936م- تحت صورته! ما مدى دلالة الصّورة الظَّاهرة على الصّورة الباطنة؟! السّيرة: الصّورة الصّورة: السّيرة وتبعًا لذلك يصبح النَّظر في الصّورة جزءًا مِن قراءة السّيرة، ممَّا يُرتِّب تعادلاً آليًّا آخر، كتعادل بين الصّورة والسّيرة وهو: النَّظر = القراءة أو: القراءة = النَّظر. صورة الزّهاوي تحمل نظَّارته السّميكة، ولحيته البيضاء، ورأسًا طار الشّعر منه، ناهيك عن التَّعب، والضَّنى، والسَّقم! ورغم توثّب عينيه، ونظراته المتألّقة التي لم يُخْفِها الزّجاج، ولكنه يُريد أن يلفت النّظر إلى ذبول يُحيط بشخصه، مُرتكزًا إلى ثلاثيّة الشّعر المُتساقط، والنَّظر الضّعيف، وبياض شعر اللحية.. هذا مثال.. ومثال آخر: يقول الرّصافي مُعلِّقًا على صورته: هذهِ صُورتِي أردُّ فيها نَظَرَاتِي إلى خيالِ شَبابِي طَالبًا أُسْوةً بها، وسَلوى عَن زَمَان الصِّبا، وعهد التَّصابِي فكأنِّي ظَمآن يَطلبُ مَاءً مِن سَرابِ السِّنينِ والأحْقابِ! تحت هذه الأشعار تربض استفهامات شتَّى حول علاقة الصّورة بالمُبدع، ولعلَّ الأستاذ والنَّاقد «حاتم الصكر»، من أوّل مَن اهتم بهكذا أمر، حيث يقول: «إنَّها مساحة إضافيّة خلقتها وسائل الاتّصال: «الطّباعة، والخط، والصّورة، والصّوت»، فكان لها ثقل مُضاف، ووزن موازٍ للنّص المكتمل في حلقته الوسطى! وبتعبير النَّاقد «جيرار جنيت» الذي يُسمِّي هذه العمليّة ب«التَّعدِّي النَّصِّي»، موضّحًا أن التّعرية كامنة في المسافة بين إنتاج النّص، وتقديمه كِتَابًا للجمهور! ثُمَّ يستدرك الأستاذ «الصكر» بقوله: «يهمنا هنا أن نُشير إلى استخدام عدد مِن الشّعراء لصورهم الشّخصيّة في أوضاع مُعبِّرة داخل قصائدهم أو دواوينهم، لنتتبَّع ما يَتعدَّاه النَّص مِن تَعبير عن الحالة التي صرَّح بها «الزّهاوي» مُباشرة، أو أخفاها الآخرون فَنًّا وحداثةً وإيحاءً»! ولعلَّ ذلك ما فعله الشّاعر «فاضل الغزاوي»، الذي نشر صورته وجاء بجانبها قوله: «انظروا إلى هذا الرَّجُل، أعرف أنّه سيموت في أحد هذه الأيام: السبت، الأحد، الاثنين، الثلاثاء...»! يهمّني بعد هذا الحشد مِن الاستشهاد؛ قراءة الصّور التي اتخمنا بها الكَتَبَة وأنصافهم، والشّعراء وأرباعهم، والصّحفيّون وأثلاثهم، تَراهم مُنهمكين في استغراقٍ عميق، هذا يعضّ الإبهام، وآخر يُقلِّب كِتَابًا أصفر، أكل عليه التيّار ونام، وثالث يزيح الغترة عن أذنه حتى يسمع جيّدًا، كأنَّ في أذنيه وقرًا، ورابع يلقي بنظره إلى الأفق «الرَّابع»؛ بعد أن هضم الآفاق الثَّلاثة الأولى، وخامس حائِر كتُفَّاحة تجلس على الطّاولة، وسادس خاشع في إطلالته، أمَّا بقيّة الوجوه فأتركها -لعلي الشدوي- فهو بها أدرى! لماذا ارتبط المُثقَّف «بالوجه المقطّب»؟ ولِمَ الادّعاء الكاذب؟ وإلى متى يضحكون علينا؟! ألم يعلموا أنَّ العامَّة يحملون مِن الوعي أكثر منهم، ومن الاطّلاع أوسع منهم؟! كُلّ الصّور «تنبلع» إلاَّ صورة مَن يتّكئ على يده اليُسرى، مُبديًا تواجده في فرحة الظّهور، وكأنّه مُستغرق في استفهام عميق! بماذا نُفسِّر مثل هذا «القسم»: أهو المراهقة المُتأخّرة، أم استغباء الآخرين، أم أنّه من الأشياء المُهمّة التي لابد مِن السّكوت عنها؟!.. ألم يقل ابن عربي: وما الوجْهُ إلاَّ واحدٌ.. غيرَ أنَّه إذا أنتَ عدَّدْتَ المَرايا تَعَدَّدَا!