حادثة الاعتداء الانتحارية الأثيمة الفاشلة التي كادت أن تنال من الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز مساعد وزير الداخلية للشئون الأمنية؛ تمثل في تقديري حدثاً مفصلياً ورسالة تصعيدية في سياق حركات التطرف والتكفير والعنف في المملكة، وقد أكدت - قبل عدة أشهر - أن (الفكر التكفيري) في غاية الخطورة، وذلك عبر بحث علمي قدمتُه في المؤتمر الوطني الأول للأمن الفكري، والتكفير أحد المهددات الكبرى للأمن الفكري ومن ثم الأمن الوطني، وكنتُ قد نشرتُ في جريدة الجزيرة قبل نحو عامين أفكاراً متعددة حول موضوع التكفير. ومع عدم نفي وجود أجندة سياسية لحركات التطرف والتكفير والعنف لا أرى في هذه الحادثة المفصلية أي مؤشرات واضحة تجعلنا نقوم بتحليلها في إطار (أهداف سياسية كبيرة) ُيراد تحقيقها عبر عمل إجرامي كهذا، بل إن مؤشرات الحادثة وما يحيط بها من ملابسات وظروف وسياقات فكرية تجعلنا نربطها مباشرة بملف (الفكر التكفيري)؛ أي أن تلك الحادثة تحمل (القليل من السياسة الغبية والكثير من التدين المنحرف)، فمن ذلك أنها حدثت في رمضان حيث يكون (الشحن الإيماني) كبيراً ودافعاً للقيام بما ُيعتقد أنه (عمل صالح) ! وفي رأيي أن المدخل الرئيس يكمن في مدارسة الفكر التكفيري بمنهجية علمية رصينة وبنفس طويل، وهنالك مفاتيح كثيرة لفهم بعض أبعاد ظاهرة التكفير وما يرتبط بها من العوامل والظواهر الأخرى، ومن ذلك أنني لاحظت أن الجهود والتعبئة التكفيرية ُتحدث استجاباتٍ متفاوتةً لدى مختلف الشرائح في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وهنا ينبعث سؤال محوري مفاده: ما السمات والعوامل التي تمكّننا من تفسير تلك المسألة وتتبع حدودها والكشف عن أبعادها؟ هذا السؤال يدفعنا أو يجب أن يدفعنا إلى تطوير بعض (المصطلحات الانعكاسية) التي تحمل قدرة تفسيرية للظواهر الاجتماعية والإنسانية المعقدة، وللإجابة على ذلك السؤال طرحتُ مصطلح (القابلية للانصياع) ، باعتباره يمثل مدخلاً جيداً لفهم ظاهرة انتشار أو تغلغل الفكر التكفيري لدى الفئات المختلفة وبالذات فئة الشباب، وتعكس تلك القابلية درجة الاستعداد لدى هذا الإنسان أو ذاك لأن ينقاد للفكرة التكفيرية ويتأثر بها وربما يؤمن بلوازمها المنحرفة والمتمثلة في أعمال العنف وجرائمه بمختلف أشكاله ودرجاته. فمثلا وجدنا أن أحد المتورطين في التكفير وأعمال العنف في السعودية يقول – بالنص -: (قابلته – أي الشخص التكفيري- كان يتحدث عن الجهاد وعن نصرة المسلمين، فتفارقنا أنا وإياه وأخذ رقم جوالي، وعقبها صار يرسلي رسائل جهادية كذا، ويتصل علي يسلم، وصرت عقبها يتصل وأقابله، بداية مقابلتي ما كان يتحدث عن التكفير أبداً، ولا كان يتحدث عن تحريم المدارس أبدا،ً ولا شيء أبداً، كان فقط يسهّل الأمور لي، فقط يتكلم عن الجهاد، يوم شافني – حين رآني - أتقبل ولا أناقش، أنا ما أناقش اللي قدامي، يوم شافني أتقبل كذا، بدأ يسب الدولة فقط، بداية ما كان يكفّر، بداية سب الدولة فقط، بعدين على شوي شوي قال الدولة أصلاً كافرة) (جريدة الوطن السعودية، 13-1-2004)، ويقول متورط آخر باستعدادات فكرية ونفسية مشابهة: (هذا الفكر خطر، لأنه الفكر أصله أنك تفدي نفسك، يكون عندك الفكر هذا، وبدأ التأثير فيك وتمكّن منك، خلاص، بترمي نفسك، بتقتل نفسك، وهنا خطورته أنك زي الأعمى، يعطيك مساراً تمشي فيه، خلاص، وتبدأ تمشي فيه إلى نهايته وتنفجر، وتقتل، وتقتل ناس معاك) (صحيفة الحياة اللندنية 15-5-2007). وفكرة القابلية للانصياع يمكن أن تفتت إلى أربعة أجزاء: جزء يعود إلى الإنسان المستهدف (الضحية)، وجزء يعود إلى الإنسان التكفير (الجاني)، وجزء ثالث يتعلق بالفكرة التكفيرية، وجزء رابع يرتبط بالفضاء الثقافي والسياسي والحالة الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية في المجتمع. وتتضافر تلك الأجزاء مجتمعة لكي تخلق لدى الضحية ما نسميه ب "القابلية للانصياع"، كبذرة نفسية فكرية، وكفكرة جوهرية مهيمنة على جهازه المعرفي، مما يصيبه بأعلى مستويات التحيز؛ فلا يلتقط جهازه المعرفي حينما يفكر أو ينظر في المسائل والقضايا والمشاكل إلا السمات والخصائص والعوامل التي تتفق مع تلك الفكرة وتنسجم مع مقتضياتها، وقد تنمو تلك القابلية بشكل أو بآخر ؛ وبوتيرة سريعة أو بطيئة، وبأسلوب واضح أو غامض، وعلى نحو كامل أو جزئي، وبطريقة قد تفشل أو تنجح، لنكون قبالة تهديد خطير بنشوء شرائح تكفيرية متجددة تغذي أعمال العنف وتزيد أواره. وإذا عدنا إلى الموضوع الأصلي ، فإنه يمكن لنا تسجيل بعض السيناريوهات المحتملة، فمن ذلك أنه ربما يتم اللجوء إلى استخدام ذات الطريقة مع شخصيات رسمية كبيرة (مسئولين – علماء – مثقفين – عسكريين) ، وربما تستخدم في تدمير بعض المباني أو المعالم التي تحمل بعداً رمزياً، ومما يعزز هذا الاحتمال فرضية تقول: أن استخدام التقنية من خلال زرع المتفجرات وتفجيرها إلكترونياً عن بعد يؤشر إلى نشوء (جيل تقني) جديد يشعر بتحقق ذاته من خلال ممارسة أعمال التفجير والعنف عبر أفكار (التقنية العالية)، فهل يعني هذا أننا سنشهد مرحلة جديدة ل (عنف الهاي تك) أو (إرهاب الهاي تك)، ربما يكون ذلك! وقد يتيح هذا للمرأة "المتطرفة" أن تأخذ بطرف من نصيبها في أعمال الهاي تك !! طبعاً إذا صحت تلك الفرضية فإن لها دلالات كبيرة وخطيرة واستحقاقات أيضاً كبيرة يجب الاعتناء بها والوفاء بها بشكل جاد... والأمر الذي يمكن قراءته بشكل ملحوظ في تلك الحادثة الإجرامية أنه حدث لدينا تفكك مريع في "النسق القيمي" ، إذ كيف يسوّغ هذا الباغي لنفسه القيام بعلية اغتيال من الخلف ، وفي بيت مضيفه، وفي وقت "حرام" ، وبعد أن أعطاه الأمان؟! وهنا ندرك أننا قصرنا كثيراً في غرس البعد القيمي العربي الأصيل وسمحنا بضمور "مكنة العيب الاجتماعي"، والتاريخ يشهد بأن العرب كانت تترفع عن القيام بكثير من الدنايا وخوارم المروءة بل والجرائم ؛ من جراء خوفهم من التلطخ ب "العيب" أو التدنس ب "العار" ، فلماذا نخسر ذلك؟ وهنالك احتمالات أخر لا يتسع المجال لذكرها، ولكنني أشدد على أن التكفير موضوع خطر ومعقد للغاية ويحتاج إلى بذل جهود بحثية وفكرية تراكمية وبنفس طويل، كما أنني أؤكد على أهمية أن تتسع صدورنا للآراء المتنوعة إزاء التشخيص أو العلاج لتلك الظاهرة في ظل ثوابتنا الوطنية مع وجوب التفريق بين (التفسير) و(التبرير) للآراء المتطرفة أو التصرفات العنيفة، وأحسب أن تلك الحادثة المفصلية لها ما بعدها في الأطر الفكرية والسلوكية، وهي تدفع بإيجاد تحليل وتشخيص دقيقين (على نار المنهجية العلمية الهادئة