يسود الاعتقاد لدى العديد من الناس، كما ويتمسك بعض ذوي النوايا السيئة، بفكرة مفادها أن (القانون لا يحمي المغفلين)، والحال أن هذه المقولة تستخدم في غير الأغراض التي قيلت أو وضعت من أجلها، فهي فكرة قانونية فلسفية حسب الأصل، مفادها أن الحماية القانونية للمصالح الخاصة ليست مطلقة بل نسبية، فالحماية القانونية إنما تبدأ قانونا من مستوى معين من سلوك مفترض للأشخاص لا تنزل دونه، ومن ثم يقع على عاتق الفرد واجب اتخاذ قدر من الحيطة والحذر في تصرفاته القولية والفعلية حتى تصبح الحماية القانونية له ممكنة، وهذه الحيطة قد تكون على شكل إجراءات أو شكليات يقع على عاتق الفرد واجب اتباعها حتى يمكن تفعيل الأنظمة القانونية التي تحميه، ومن ذلك شرط التسجيل العقاري لانتقال الملكية في العقارات وشرط توثيق الدين بمستند عادي أو رسمي للإثبات، فتكون شروط الحماية القانونية هنا توافر هذا السند، فإذا جاء الدائن بعد ذلك مطالباً بحقه أمام القضاء، فإن القاضي يطالبه بإبراز سند الملكية أو الدين، فإن لم يتوافر هذا وأنكر المدين الدين فلا يقضى له بحقه، فالقاضي لا يحكم على مجرد الادعاء وإنما على أساس ما توافر من بينات، وعند عدم توافرها يلجأ القاضي إلى ما تقرره نصوص القانون أو المبادئ القانونية العامة في هذا الصدد ومنها مبدأ (الأصل براءة الذمة وعدم مشغوليتها بأية ديون أو التزامات وعلى من يدعي خلاف هذا الأصل أن يقدم البينة عليه)، ولما كان الدائن يدعي خلاف الأصل فعليه عبء إثبات ما يدعيه، فإن عجز عن ذلك فالقانون لا يتمكن من حمايته لأنه لم يتخذ قدراً معقولا من الحيطة اشترطها القانون لحمايته. وتعبر هذه الفكرة في مضمونها الفلسفي عن الفرق بين الحقيقة القانونية والحقيقة الواقعية الحقة، وقد تتطابق الحقيقة القانونية مع الحقيقة الواقعية وقد لا تتطابق، والقضاء يحكم بناء على معطيات الحقيقة القانونية لا الحقيقة الواقعية عند عدم تطابقهما، ولهذا كان للعدالة ضحايا، ومن ذلك شهادة الزور، إذ هي تحجب الحقيقة الواقعية الحقة عن نظر القاضي فيحكم بناء على الحقيقة القانونية التي تجسدت في شهادة الزور فهو يعتمدها مادام ليس هناك سبيل لكشف زورها وبهتانها. وفيما عدا ذلك فإن القانون يحمي المغفلين ومظاهر الضعف الإنساني من استغلال المستغلين وكيد الكائدين ونصب المحتالين، ومن تطبيقات ذلك تبني الشرع الإسلامي نظرية الغلط ونظرية التغرير مع الغبن ونظرية الاستغلال، فضلا عن حماية القاصر والمجنون والمعتوه والسفيه وذي الغفلة ورتب آثاراً قانونية عليها تجسدت في اعتبار التصرفات المشوبة بعيب من عيوب الرضا موقوفة على إجازة من تعيبت إرادته أو وليه أو القيم أو الوصي عليه، فضلا عن تبنيه نظرية البطلان في حالات انعدام الأهلية أو محل العقد أو سببه في العقود، ونظرية الاستغلال بوجه عام نظام قانوني مؤداه توفير الحماية القانونية في حالة أن يعمد شخص إلى أن يفيد من ناحية من نواحي الضعف الإنساني يجدها في آخر، كحاجة ملجئة تتحكم فيه، أو طيش بين يتسم به سلوكه، أو هوى جامح يتحكم في مشاعره وعواطفه، أو خشية تأديبية تسيطر عليه، فيجعله يبرم عقدا ينطوي عند إبرامه على غبن فاحش يتجسد في عدم التناسب بين ما أخذه منه وما أعطاه له، فيؤدي به إلى خسارة مفرطة، حيث يمثل عقده هذا اعتداء على قواعد الأخلاق والائتمان السائدة في المجتمع ومبدأ حسن النية. والاستغلال مظهر من مظاهر تطور فكرة الغبن من نظرية مادية إلى نظرية نفسية، فالغبن هو المظهر المادي للاستغلال. والاستغلال كعيب يشوب الرضا، نظام قانوني حديث نسبياً ظهر في العصور الحديثة بتأثير نزعة العدالة من وجه، والرغبة الصادقة في مكافحة النوايا السيئة، إذ يحارب نظام الاستغلال من ناحية التفاوت الصارخ بين ما يأخذه المتعاقد وما يعطيه، ومن ناحية أخرى يحارب استغلال نواحي الضعف الإنساني في المتعاقد لأن ذلك لا يأتلف مع شرف التعامل وحسن النية وقيم المجتمع المتحضر. ويعمل النظام القانوني للاستغلال على أن يفوت الفرصة على ذوي القصد السيئ ممن يتلمسون مظاهر الضعف الإنساني بقصد الحصول على مكاسب غير مشروعة، والحال إن كل مظهر من مظاهر الضعف الإنساني من شأنه أن يحقق الاستغلال، وفي ضوء ذلك فإن بعض التشريعات تضع قاعدة عامة في الاستغلال من شأنها أن تنطبق على أي مظهر من مظاهر الاستغلال أيا كان نوعه أو طبيعته تماشيا مع خصيصة التجريد التي ينبغي أن تكون عليها القاعدة القانونية التي تسمو على التفصيلات والجزئيات.