لم تعد مقولة «القانون لا يحمي المغفلين» صالحة للاستخدام في الفكر النظامي، فالعالم اليوم تحول إلى (قرية) توحدها مواثيق وقرارات ومعاهدات لن ينسل منها إلا «ماكر» إن استطاع، وهذا كله لا يعني أننا تخلصنا من أولئك «المغفلين» وإخوتهم «الماكرين» وإنما يعني الأمر أن الاحتيال والتجاوز أصبح أكثر تعقيداً من ذي قبل، ولاسيما في المجتمعات المدنية التي أعطت للقانون وللنظام حقه ومكانه الصحيح، حقيقة واقعية تفيد أن كثرة القوانين تساعد في الاحتيال. وربما فسر هذا حالات التجاوز والخداع الكبير التي تحدث أحياناً، فكم من قضية انطوت على مخالفات قانونية أو أحقت التزامات مالية أو خسائر فادحة. «القانون الوقائي» حداثة في النص وعمق في المفهوم. أطروحة قدمها القاضي السابق والمستشار القانوني حسان السيف الذي خلص إلى أن الجهل القانوني لم يعد قاصراً على فئات قليلة من المجتمع بل تحول إلى رجال وسيدات الأعمال، موضحاً أن الواجب القانوني يحتم الحديث عن الوقاية قبل وقوع أي التزام قانوني، خصوصاً في المعاملات المالية والشيكات والوكالة وغيرها. وأشار إلى أن الشيكات مثلاً، بدأت تفقد قوتها لولا القرار الصادر من مجلس الوزراء، والذي اعتبر الشيكات من غير رصيد من الجرائم الكبرى التي تستحق التوقيف. وبين أخطر المخالفات الشائعة في العقود من وجهة نظر السيف «عدم العناية بتحديد الجهة المختصة بالفصل حال حدوث نزاع بين طرفي العقد، ما يكبل الطرفين إشكالات كبيرة وخسائر فادحة»، كما برر التعسف من جانب أصحاب العمل بأنه بسبب عدم استيعاب المواد التي نص عليها نظام العمل. نص حوار معه. ما الجديد الذي تقصده من خلال بحثكم «القانون الوقائي» وما مدى الحاجة إلى مثل هذا النوع من القانون؟ - أولاً تشريع القوانين له مقاصد متعددة منها الوقاية من حدوث وقائع تنطوي على مخالفة للقانون أو تتنافى مع مقتضيات العدالة المقررة لدى الدولة محل القانون، وهذا المعنى ليس مقصوداً لنا في هذا المقام، إذ إن مرادنا بالقانون الوقائي هنا هو (مجموعة الإجراءات القانونية الاحتياطية للحد من وقوع خسائر أو استحقاق عقوبات بسبب مخالفة القانون، أو حدوث نزاعات بسبب الاختلاف حول تفسير الحقوق والالتزامات، وكذلك الحد من وقوع التاجر ضحية للنصب والاحتيال). ونحن - القانونيين - معنيون بحماية أعمال ومصالح المجتمعات بشكل عام وأفراد المجتمع بشكل خاص، شأننا شأن الأطباء المعنيين بحماية صحة المجتمع، ولأجل ذلك أسسوا علم الطب الوقائي الذي بني على الحكمة الشهيرة «درهم وقاية خير من قنطار علاج»، والقانون الوقائي يعالج هذا الجانب. ومصطلح القانون الوقائي بهذا المعنى غير متداول بشكل كبير في مجتمعنا المحلي، ولكن في ظل النمو المُتسارع للاقتصاد المحلي، والعلاقات التجارية الدولية، ووجود مبادرات عدة لدعم المنشآت التجارية الصغيرة، أصبحت الحاجة ملحة جداً للقانون الوقائي، إذ أصبح الدخول في أي تعامل تجاري أو مالي من دون اتخاذ الإجراءات القانونية الوقائية ضرباً من ضروب المغامرة غير المأمونة العواقب. أفهم من حديثك أن مجتمعنا المحلي يعاني ضعف الثقافة القانونية؟ - في الواقع نعم، والمحزن أن ضعف الوعي القانوني ليس مقتصراً على عامة الناس بل إنه ظاهرة بارزة حتى على مستوى رجال وسيدات الأعمال، ولذا وقع كثير من هؤلاء تحت طائلة الجزاءات القانونية ومنهم من كان ضحية للمحتالين والمتلاعبين، وتحمل البعض منهم مسؤولية دفع مبالغ كبيرة جداً، كان يمكن أن يقي نفسه منها لو استعان بالله عز وجل ثم حصّن نفسه بالوعي القانوني الوقائي للوقاية من هذه المسؤوليات الجسيمة، والأمثلة التي مرت بي كثيرة جداً. دعنا ندلف لهذا القانون ونتعرف على أهم الإجراءات الوقائية التي يُعنَى بها القانون الوقائي؟ - من أهم الإجراءات الوقائية العناية بتنظيم الوكالات وضبط الصلاحيات، وكذلك الاحتياط عند التعامل مع الوكلاء والمفوضين، وذلك لأن الوكيل يقوم مقام الأصيل في كل ما وكَّله به، لذا فمن المهم جداً ضبط الصلاحيات الممنوحة له وتقييدها قدر الإمكان، ومن أهم الأمور الوقائية عدم توكيل الغير في الإقرار مطلقاً، وذلك لأن منح الوكيل حق الإقرار عن موكله يقتضي أن يقوم الوكيل مقام الموكل في إثبات الحقوق والالتزامات في ذمة موكله بموجب تلك الوكالة، ويمكن الاستغناء عن التوكيل بالإقرار عند الحاجة إليه بأن يكتب المقر إقراره خطياً، مع مراعاة الدقة في صياغة الإقرار وتحريره ومن ثم يسلمه للوكيل ليقوم بتسليمه للجهة القضائية. ومن تلك الإجراءات وضع حد أعلى لتعامل الوكيل بمعاملات مالية نيابة عن موكله، خصوصاً للوكلاء المفوضين بالبيع والشراء وغير ذلك من المعاملات المالية، ومن تلك الإجراءات تقييد تسلم الوكيل للأموال بأن تكون عبر شيكات مصدقة باسم الموكل. من المشكلات التي تطرأ مشكلة امتناع الوكيل عن تسليم الوكالة بعد فسخ موكله لها... كيف التعامل هنا؟ - عالجت الإجراءات القانونية الوقائية ذلك عبر تقييد الوكالة بقيود عدة، تحد من إمكان تلاعب الوكيل، فمن ذلك تقييد مدة الوكالة زمانياً بأن يحددها الموكل بالمدة الزمنية الكافية لأداء الوكيل مهمته فيها، وإذا كانت المدة غير معلومة فتحدد الوكالة بمدة معينة وتجدد بعد ذلك بشكل دوري فيكون انتهاء المدة المحددة للوكالة مبطلاً لها وملغياً للآثار القانونية المترتبة على الاستناد إليها بعد انتهاء مدتها، كما تظهر فائدة تقييد الوكالة زمانياً عند غياب الوكيل أو سفره أو امتناعه عن تسليم صك الوكالة. هذا بشأن تعامل الموكل مع وكيله لكن كيف يحمي رجل الأعمال نفسه عند التعامل مع الوكلاء والمفوضين الآخرين؟ - عند التعامل مع الوكلاء أو المفوضين فمن الضروري ألا يتم التعامل مع الوكيل إلا بموجب صك وكالة شرعي أو تفويض مصدق من الغرفة التجارية، ومن ثم لا بد من الاطلاع على أصل الوكالة أو التفويض وأخذ صورة طبق الأصل منها تحمل توقيع الوكيل أو المفوض وإقراره بصحتها وسريانها، ولا بد من التحقق من كون الوكيل أو المفوض مخولاً بذات الأمر المزمع التعامل به معه، إذ إن بعض الوكالات لا ينص فيها على الحق في إبرام العقود أو توقيعها أو تسلم المبالغ وغير ذلك من التعاملات. ولكن لو انتقلنا إلى تعاملات أعمق من ذلك مثل العقود التجارية وغيرها، ما أبرز الجوانب الوقائية التي يمكن الأخذ بها في مثل هذه التعاملات؟ - لا شك أن العقد هو الإطار القانوني الذي يحكم الأعمال التجارية، ومن ثم كانت العناية بالعقود من جميع جوانبها من أهم الإجراءات القانونية الوقائية، ومن أهم تلك الإجراءات: أولاً: مراجعة تاريخ وسيرة الطرف الذي تتعاقد معه واستطلاع آراء من تعاملوا معه، وفي التعاملات الكبيرة من المهم الاطلاع على السجل الائتماني للطرف المتعاقد. ثانياً: العناية بكتابة العقود وتحريرها تحريراً مفصلاً نافياً للجهالة وقاطعاً للنزاع، وقد حثت على هذا آية الدين: «يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه... »، «ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا»، ولا بد أن تكون هذه الصياغة من مختص ممارس لصياغة العقود ومؤهل تأهيلاً علمياً كافياً «وليكتب بينكم كاتب بالعدل». ثالثاً: الفحص النافي للجهالة لمحل التعاقد، ووصفه وصفاً دقيقاً يميزه عن غيره، وإدراج هذه الأوصاف داخل بنود العقد أو في ملحق موقع من الطرفين. ماذا تعني بالفحص النافي للجهالة؟ - تختلف متطلبات الفحص من تعامل لآخر، فعلى سبيل المثال، إذا كان محل التعاقد حصة في شركة ذات مسؤولية محدودة فلا بد من الاطلاع على عقد التأسيس وجميع قرارات الشركاء اللاحقة له، والسجلات التجارية، والعلامات التجارية المملوكة للشركة واتفاقات التمويل والإقراض والموازنات، إضافة إلى قائمة بالأصول الثابتة وملكية الشركة في الشركات الأخرى والمستندات المثبتة لملكية الشركة لها. وإذا كان محل التعاقد أسهم شركة مساهمة فلا بد من الاطلاع على عقد التأسيس والنظام الأساسي بكافة تعديلاته وتحديثاته ومحاضر اجتماعات مجلس الإدارة واللجان المنبثقة عنه ومكافآتهم ومزاياهم والسجلات التجارية، والعلامات التجارية المملوكة للشركة واتفاقات التمويل والإقراض والموازنات، إضافة إلى قائمة بالأصول الثابتة وملكية الشركة في الشركات الأخرى والمستندات المثبتة لملكية الشركة لها وغير ذلك من المستندات، والتي تختلف باختلاف التعاملات التجارية، إضافة إلى الاطلاع على سجل المساهمين في الشركة والتحقق من كونه آخر سجل معتمد من الشركة، والاطلاع على المركز المالي للشركة. نود أن تذكر لنا مثالاً على خطأ شائع في صياغة العقود لدى الشركات التجارية إن أمكن؟ - من الأخطاء الشائعة في العقود عدم العناية بتحديد الجهة المختصة بالفصل حال حدوث نزاع بين طرفي العقد مكانياً، إذ إن عدم التحديد يجعل الشركة تضطر عند التقاضي إلى تكبد مصاريف سفر المحامين لرفع الدعوى في بلد المدعى عليه، خصوصاً إذا كانت الشركة تمارس نشاطها في مناطق متعددة. وكذلك من الأخطاء عدم العناية بتحديد المهل الممنوحة للطرفين لتلافي التقصير عند حدوثه، والنص على الأحقية في فسخ العقد عند مضي المدة، وهو الأمر الذي يعطي الشركة الحق في فسخ العقد بعد ذلك من دون الحاجة إلى حكم قضائي. دعنا ننتقل إلى إحدى أهم مشكلات الأعمال التجارية، وهي قضايا الشيكات المتعثرة، كيف ترون إمكان حماية الأعمال التجارية من تبعاتها، وقبل ذلك عن مكانة الشيكات لدينا حالياً؟ - الشيك بدأ يفقد قوته في مجتمعنا المحلي بسبب إساءة استخدامه لدى كثير من المتعاملين به، ولأجل إعادة الهيبة إلى الشيكات فقد صدرت قرارات من مجلس الوزراء السعودي تتضمن اعتبار كتابة الشيك بدون رصيد من الجرائم الكبيرة الموجبة للتوقيف، وكذلك كل من كتب أو ظهر شيكاً وهو يعلم أنه ليس له مقابل يفي بقيمته أو أنه غير قابل للصرف، كما أن مجرد كتابة شيك بدون رصيد تترتب عليه عقوبة تتمثل في الحبس مدة قد تصل إلى ثلاث سنوات وغرامة مالية قد تصل إلى 50 ألف ريال أو معاقبته بإحدى العقوبتين. وهنا سوف أشير إلى أهم الجوانب القانونية المتعلقة بالتعامل بالشيكات: بيانات الشيك الضرورية: يشتمل الشيك على البيانات التالية: أولاً كلمة (شيك) مكتوبة باللغة التي كتب بها الشيك، ثانياً أمر غير معلق على شرط بوفاء مبلغ معين من النقود، وثالثاً اسم من يلزمه الوفاء (البنك المسحوب عليه)، ورابعاً مكان الوفاء، وخامساً تاريخ ومكان إنشاء الشيك، وأخيراً توقيع من أنشأ الشيك. وبناء عليه فمن الضروري أن يتحقق المستفيد من الشيك من اكتمال جميع هذه البيانات في الشيك قبل تسلمه، كما أن كاتب الشيك لا بد أن يتحقق من إكمال جميع هذه البيانات إضافة إلى أنه من الضروري أن يقيد ساحب الشيك صرفه بعبارة «لا يصرف إلا للمستفيد الأول». لماذا التأكيد على «لا يصرف إلا للمستفيد الأول»، وهل يؤثر عدم تقييدها؟ - من الضروري عند كتابة الشيك وضع عبارة «يصرف للمستفيد الأول»، إذ إن هذا القيد يعني أنه لا يجوز أن يصرف البنك الشيك إلا لأمر المستفيد الأول المكتوب اسمه على صدر الشيك، وإذا قام البنك بصرف الشيك لغير المستفيد الأول كان مسؤولاً عن هذا الخطأ. وتبرز أهمية ذلك في أن عدم وضع عبارة «يصرف للمستفيد الأول» تتيح المجال للمستفيد الأول في أن يظهر الشيك ومن خلال التظهير تنتقل ملكية الشيك إلى المظهر له، ما ينتج منه آثار قانونية معقدة، ومن أمثلة ذلك ما لو قام المستفيد الأول بتظهير الشيك ثم ادعى فَقْدَ الشيك ووقّع مخالصة مع منشئ الشيك عن الشيك المفقود، وتسلم مقابل المخالصة مبلغ الشيك فإن ذلك لا يعفى منشئ الشيك من المسؤولية أمام المظهر له لأن التظهير ينقل ملكية الشيك تماماً وبالتالي يستطيع المظهر له الرجوع إلى منشئ الشيك ومطالبته بمبلغ الشيك، وقد وقعت قضايا معقدة عدة بسبب هذا الخطأ. ما الذي نفهمه من المصطلح القانوني «الشيك أداة وفاء واجب الدفع عند الاطلاع»؟ - معنى ذلك أنه يقوم مقام النقود في التعاملات التجارية، فلا يحق للبنك المسحوب عليه رفض صرفه أو تأخيره ومن ثم فلا يجوز أن يستخدم الشيك كأداة دفع مؤجلة لأنه واجب الوفاء عند الاطلاع كما أنه لا يجوز استخدام الشيك لتوثيق الحقوق، أو ضمانها كأن يشتري شخص سلعة بالتقسيط قيمتها 100 ألف ريال مقسطة على عشرة أشهر كل شهر عشرة آلاف ريال ولأجل ضمان السداد يقدم المشتري للبائع شيكاً بمبلغ قدره 100 ألف ريال، فهنا لو كان البائع سيئ النية يستطيع أن يتقدم بصرف الشيك، ولو سدد المشتري جزءاً من قيمة المبيع، وإذا لم يكن للشيك رصيد أصبح المشتري مرتكباً جريمة إنشاء شيك بدون رصيد ولا عبرة بكونه أنشأ الشيك كضمان لقيمة السلعة أو أنه سدد قيمتها للمشتري. من خلال معايشتكم عدداً من القضايا باعتبارك قاضياً في السابق ومحامياً حالياً، ما الذي تود أن تختم به؟ - أعتقد أنه آن الأوان لكي يلتفت رجال وسيدات الأعمال إلى اتخاذ الإجراءات القانونية الوقائية الكفيلة بحماية أعمالهم التجارية، وكذلك لا بد من تضافر الجهود بين الغرف التجارية وجميع الجهات الحكومية ذات العلاقة لرفع مستوى التوعية القانونية لدى المجتمع.