عبدالحميد الأنصاري - الإتحاد الإماراتية بعد سلسلة طويلة من السياسات العقيمة والتي أدت إلى تعميق الانقسام الفلسطيني، وجعلت من المصالحة الفلسطينية حلماً بعيد المنال، وبعد سلسلة أخرى من المغامرات الخاطئة والتي جلبت الكوارث على أهل غزة وأودت بحياة آلاف الأبرياء الذين ذهبوا إلى لقاء ربهم من غير أن يتحقق أي هدف نضالي غير إحكام الحصار على أهالي غزة والاستنفار الدولي لمنع وصول أي سلاح إلى غزة، وبعد احتفالات خادعة بنصر إلهي موهوم لم يجن منه سكان غزة إلا مزيداً من البؤس والمعاناة، أدركت "حماس" أنها في ورطة كبيرة وأن شعبيتها في الحضيض وأن هامش المناورة أمامها قد ضاق، فهي لن تستطيع أن تطلق الصواريخ ضد المستوطنات مرة أخرى لأن الرد سيكون أكثر وحشية على يدي الحكومة اليمينية المتطرفة. هذا الدرس الباهظ الكلفة الذي توصلت إليه "حماس" مؤخراً، هو نفس الدرس الذي أدركه "حزب الله" من قبل بعد صيف 2006 عقب مغامرته غير المحسوبة والتي جرّت الخراب على لبنان، ولذلك لم يطلق "حزب الله" منذ ذلك اليوم طلقة واحدة على إسرائيل رغم تجدد الدواعي لذلك، لكن الشعوب هي التي تدفع الثمن دائماً، لقد علمتنا تلك الدروس أن هذه الجماعات الأيديولوجية المسلّحة والتي تعمل خارج نطاق السلطة الشرعية للدولة وتتخذ قرارات مصيرية من وراء ظهرها، لن تتعلم وتستوعب الدروس بسهولة لأن قادتها يعيشون في أوهام وخيالات، ويصبحون أسرى للشعارات الحماسية التي يعبئون الجماهير والأنصار بها، لذلك عندما يتخذون قرارات مصيرية منفردة لا يحسنون قراءة الأوضاع والموازين الحقيقية في الساحة، فيغامرون، وتكون العاقبة أكبر الخسائر في الأرواح وأعظم الدمار للأوطان ومن غير أن يتحقق أي هدف نضالي أو سياسي، والأنكى أنهم يزعمون من بين الخراب والدمار والأشلاء، أنهم منتصرون! بل تبلغ بهم الجرأة أن ينسبوا نصرهم المزعوم إلي الله! والأغرب أنهم يجدون من يصدقهم ويحتفل بنصرهم! إذا كان الدمار نصراً فماذا تكون الهزيمة؟! وكيف ينصر الله قوماً وهم يبطشون بإخوانهم واستحلوا دماءهم وجعلوا همهم السلطة والحكم؟! تبدو "حماس" اليوم كما لو أنها استوعبت الدروس السابقة وهي تحاول أن تحافظ على بقية رصيدها الجماهيري عبر إبداء بعض المرونة السياسية مع مطالب المجتمع الدولي -عامة- ومع الراعي الأميركي خاصة. لقد وجدنا قادة "حماس" يطلقون التصريحات بأنهم مع الحوار ومع السلام ومع الحل السلمي، يريدون أن يتجنبوا العزلة ويتواصلوا مع المجتمع الدولي لكنهم إذ يريدون الانفتاح على الخارج يخشون أن يصارحوا قواعدهم الجماهيرية في الداخل فيتشددون. ومشعل رئيس المكتب السياسي ل "حماس" أدلى في مقابلة طويلة استغرقت 5 ساعات مع صحيفة "نيويورك تايمز" بتصريحات لو كان صادقاً فيها لما كان هناك أدنى خلاف بينها وبين المبادرة العربية التي تتبناها السلطة الفلسطينية، فقد جاء في هذه التصريحات قوله: "أتعهد للإدارة الأميركية والمجتمع الدولي بأن نكون جزءاً من الحل بشكل نهائي"، كما لم يتردد في تأكيد أنه كان "تواقاً إلى وقف إطلاق النار مع إسرائيل". وفي إشارة ذات مغزى قال: "إن حماس أصدرت أوامرها بوقف إطلاق الصواريخ من غزة على إسرائيل". وليس هذا فحسب بل "إن الحركة قادرة على ضبط ذلك، ليس على أفرادها فقط، وإنما على جميع الجماعات الأخرى". وفي اعتراف نادر بالخطأ قال إن "حماس" الآن تقوم بعملية مراجعة لعمليات إطلاق الصواريخ على اعتبار أن إطلاقها هو "وسيلة وليس هدفاً بحد ذاته". لكن السؤال: كم تطلّب ذلك من تضحيات وأكلاف باهظة حتى تدرك يا مشعل أن إطلاق الصواريخ وسيلة وليس هدفاً؟! ألم تقل السلطة الفلسطينية ذلك مراراً وتكراراً، وأن المقاومة لها وسائل عديدة لا تنحصر في إطلاق الصواريخ التي ضررها أكبر من نفعها؟ بل ألم ينصحك، يا مشعل، كثير من العرب المعتدلين بتجديد الهدنة وعدم إطلاق الصواريخ، فرفضت وكابرت واتهمت وخوّنت وحمّلتهم مسؤولية سقوط الشهداء وخوفتهم من محاسبة الله لهم؟ والمدهش في تصريحات مشعل هذه هو أنه "مع قبول دولة فلسطينية بحدود 1967 على أساس هدنة طويلة، متضمناً القدسالشرقية وفك المستوطنات وعودة اللاجئين". إذا كنت يا مشعل تقبل دولة فلسطينية بحدود 1967، ففيم حربك على إخوانك في "فتح"؟ وفيم تخوينك لهم؟ وفيم صراعك على السلطة معهم؟ يقول مشعل إنه كان "تواقاً" لوقف إطلاق النار، وتناسى أنه وبقية قادة "حماس" كانوا يستخفون بحجم الخسائر ويرددون: "ما خسرناه ضئيل جداً والمقاومة بخير"، بل إنهم وقفوا ضد الدول العربية التي بذلت مجهوداً خرافياً من أجل إنقاذ الشعب الفلسطيني من دمار محقق وأهوال حرب وحشية، وصرّح هنية من مخبئه الآمن يومها بأنه لن يتخلى عن موقفه ولو أبيدت غزة عن بكرة أبيها! تناسى مشعل أن "حماس" رفضت القرار الدولي بوقف النار وقالت إنها غير معنيّة به لأنهم لم يتشاوروا معها! ثم أقاموا احتفالات ضخمة بالنصر الإلهي! إذا كنتم قد انتصرتم ففيم مراجعتكم لعمليات إطلاق الصواريخ! ولماذا تقبل يا مشعل بدولة فلسطينية بحدود 67 وميثاق "حماس" يدعو إلي محو إسرائيل من الوجود عبر سبيل الجهاد لا غير؟! يبدو أن هذا الموقف الجديد ل "حماس" هو الذي أثار حليفتها "الجهاد الإسلامي"، حيث صرّح نافذ عزام القيادي في "الجهاد" قائلا: "إن إجراء أي شكل من أشكال الحوار مع إسرائيل يعد مخالفاً للشرع"، كما رفض أي حوار مع الإدارة الأميركية لأنها تدعم إسرائيل. وبدوره رفض نائب الأمين العام ل "الجهاد" زياد النخالة المبادرة العربية واعتبرها أخطر من وعد بلفور، واعتبر قبول مشعل بدولة على حدود 67 خطوة خطرة، فيها ضياع لفلسطين التاريخية. وفي تعريض بموقف "حماس" الجديد قال: "نحن لا نجامل أحداً في الموقف السياسي". وقد جاءت هذه التصريحات رداً على تصريحات مفتي "حماس" يونس الأسطل الذي أبدى استعداد "حماس" للحوار مع الإدارة الأميركية ومع إسرائيل! إذن لماذا تخونون السلطة في حوارها مع أميركا وإسرائيل! جاء الرد الإقصائي التخويني: ليست المشكلة في الحوار وإنما المشكلة فيمن يحاور! السلطة محاوروها ليست عندهم حصانة إيمانية ولا حصانة وطنية! إذن هذا هو مربط الفرس، "حماس" لا مشكلة عندها في الحوار مع العدو المغتصب لكنها تريد أن تكون هي المحاور لا السلطة... هذا هو هدف "حماس" منذ البداية ولكن لماذا؟ لأن "حماس" تحتكر الوطنية والدين وعندها من الحصانة ما يعصمها من التنازل أو التفريط في الثوابت! هذا هو الإقصاء الديني والوطني وهو أقتل داء ابتليت به الأرض العربية علي أيدي الانقلابيين الثوريين وجماعات الإسلام السياسي، عندهم صكوك الوطنية وبيدهم مفاتيح الجنة! ما أقسى الحياة في ظل هؤلاء الإقصائيين!