أصدر معالي الأستاذ الدكتور سليمان بن عبدالله أبا الخيل مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كتاباً بعنوان (وقفات مع حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- في الفتن وسبل النجاة منها)؛ حيث تناول هذا الموضوع من خلال تسع وقفات أكد خلالها أنه في وقت الفتنة، وأيام المحن تضيق النفوس، وتضطرب المناهج، ويختلف الناس في مواقفهم منها، والفتن والابتلاءات سنة إلهية، قدرها الله لحكم قد تدرك وقد لا تدرك، والمسلم في سيره إلى الله، وفي تعامله مع هذه الفتن بحاجة إلى أن يتعرف على السنن ويعلم المنهج الشرعي للنجاة منها، لئلا يسقط فيها، ورأس الفتن والبلايا والشرور، وأساسها فتنتان عظيمتان: فتن الشبهات وفتن الشهوات، والأولى أعظم وأمكن أثرًا، وأشد خطرًا وضررًا، وقد حذرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم- من توارد الفتن، فقال - صلى الله عليه وسلم- : «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضها، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى له»، وقال - صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -: «بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا»، وقال - صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمٌ يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن»، وقال - صلى الله عليه وسلم- من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشرِبَها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربادًا كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه». يقول ابن القيم -رحمه الله- على هذا الحديث: «فشبّه عرض الفتن على القلوب شيئًا فشيئًا كعرض عيدان الحصير، وهي طاقاتها شيئًا فشيئًا، وقسّم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين: قلب إذا عرضت عليه فتنة أشربها كما يشرب الإسفنج الماء، فتنكت فيه نكتة سوداء، فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسود وينتكس، .. فإذا اسودَّ وانتكس عرض له من هاتين الآفتين مرضان خطيران متراميان به إلى الهلاك، أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر فلا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والسنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلاً والباطل حقًا. الثاني: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم- وانقياده للهوى واتباعه له. وقلب أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان وأزهر فيه مصباحه، فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وردها فازداد نوره وإشراقه وقوته. والفتن التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي فتن الشهوات وفتن الشبهات، فتن الغي والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظلم والجهل، فالأولى توجب فساد القصد والإرادة، والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد». ومن هنا وجب علينا أن نستقرئ كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لنستبين معالم المنهج الشرعي للتعامل مع الفتن، ويكون لنا فيما ورد عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبرة، وقد كانت بداية الفتن بخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عصرهم، فقد أخبر أن انفتاح البوابة بمقتل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه -، وذلك حينما أخبر أنه باب دون الفتنة، وأنه سيكسر، فعن حذيفة -رضي الله عنه - قال: كنا جلوسًا عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقال: أيكم يحفظ قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في الفتنة؟ قلت: أنا كما قاله، قال: إنك عليه لجريء، قلت: فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي، قال: ليس هذا أريد، ولكن الفتنة التي تموج كما يموج البحر، قال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابًا مغلقًا، قال: أيكسر أم يفتح؟ قال: يكسر، قال إذاً لا يغلق أبدًا. وكلما بعدت الأمة عن عصر القرون المفضلة كان الخطر أعظم، والحاجة إلى البيان أشد، ولاسيما أن مظاهر الفتن، وتساقط الناس فيها أمر ظاهر، وما ظهور المبادئ والأحزاب والجماعات والتيارات إلا شاهد على ذلك. ونحن في هذا العصر ابتلينا بفتن متعاقبة، بل أعظم من ذلك حصل فينا ما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مما سيأتي الحديث عنه دعاة على أبواب جهنم، فوجد فينا ومن أبناء جلدتنا من يحرضون الناس على الخروج على الولاة، وشق عصا الطاعة، ومفارقة الجماعة، ونزع البيعة من أعناقهم، وهذه لعمر الله من أعظم الفتن؛ لأنها تهدد الوحدة والاجتماع والألفة والأمن، والتي هي من أعظم ضرورات الناس في حياتهم، وهي في أصلها ومبادئها تقود إلى فتن الشبهات التي مر بنا أنها أعظم خطرًا؛ لأن المفتون بها ينطلق في نظره من منطلقات يظن أنها شرعية، ويلبسها لبوس الحق، والشرع والجهاد، وهي في حقيقتها شبهات موهومة، واستدلالات مزعومة، بل وأبعد من ذلك وأعمق نرى أنها في الوقت الذي تلبس فيه بلبوس الدين إلا أنها في واقع الأمر وحسب تخطيط القوم تتجاوز أصولاً كبرى، وتتجاسر على محرمات بل كبائر، فيرتكب لأجلها الإخلال بأمن بلاد المسلمين، وتجرئة أعداء الإسلام عليها، وخدمتهم بهذا العمل الشيطاني الذي يروجونه بالشبهات والتأويل والتزييف، وتنطلي على بعض الناس، وفي سلوكهم ومنهجهم يرتكبون الكذب والغش والتزوير، واستغلال عاطفة البذل والسخاء لدى عامة المسلمين، وكل هذا يقدم باسم الإسلام، ألا ما أعظمها من فتنة ومحنة. وما من شك أن من دعا إلى الفرقة ونبذ الجماعة فهو داخل دخولاً أوليًا في الحديث، كيف لا والنبي - صلى الله عليه وسلم- جعل وصيته المنقذة من هؤلاء الدعاة، المنجية من الفتن في قوله: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»، وجواب الرسول - صلى الله عليه وسلم- جواب الحكيم، فلا يمكن أن تكون وصيته وجوابه يخالف ما حذَّر منه. وإن من يتأمل واقعنا يجد أن هذه أخطار عظيمة تهدد وحدتنا، وأنها في صورتها وأسبابها ودوافعها ومآلاتها فتنٌ كقطعِ الليل، وأحوال تجعل الحليم حيرانَ، وهذه التحزبات إلى فئات وجماعات وتيارات، أفكار وردت علينا، وعوادٍ أثرت في نفوس أبنائنا، ولكن عند التأمل والتدقيق والتلمس في مواطن الشريعة نجد أن لدينا القدرة والكفاية والغناء في ردها ودحرها، وبيان المنهج الصحيح والطريق السليم، يكمن ذلك في نصوص الوحيين: الكتاب والسنة، وإن الناظر نظرة فاحصة لكل ما يحتاجه الناس في معاشهم ومعادهم، في عقولهم وأفكارهم وأبدانهم، في أمنهم وأمانهم يجد أن ذلك مؤسس له ومؤصل في مبادئ الشريعة وقواعدها وأصولها، ولكن من الذي يدركه ويعرفه ويستطيع أن يطبقه على نفسه وعلى أسرته وعلى أفراد مجتمعه؟ والحق أن كل ما صح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم- يعد منهجًا للخروج من الفتن، ولكن من أعظم الأحاديث التي تعد مخرجًا في الفتن المدلهمة، والنوازل والخطوب حديث عظيم، تضمن أصولاً ومعالم كثيرة، من يتدبره ويتأمله ويعمل ذهنه بصفاء في مضامينه يجد أنه شهادة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- بالبلاغ المبين، والنصح البالغ والشفقة على أمته، إنه حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -، كيف لا وقد جاء هذا الحديث من خبير الفتن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -، ذلكم الصحابي الجليل الذي حاز منقبة عظيمة وهي أنه كان صاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، وأفضى إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بما لم يفضِ إلى غيره، حيث ذكر له أسماء المنافقين وأعيانهم، ونبدأ بسياق الحديث ثم نقف معه وقفات بما يفتح الله علينا به في هذا المقام. ففي الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ:»نَعَمْ»، قَالَ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ:»نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ». فَقُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ:»قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ». قُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ:»نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: «هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا»، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لهم جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ كَذَلِكَ»، وورد الحديث في صحيح مسلم بلفظ: قُلْتُ: فَهَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ:»نَعَمْ»، قُلْتُ: كَيْفَ يَكُونُ؟ قَالَ: «يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لاَ يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ وَلاَ يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ»، قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ». هذا هو حديث حذيفة المخرج في الصحيحين، فيه من الأحكام المهمة، ومن الفوائد الجليلة مالا يمكن أن نأتي عليه في مثل هذا العرض الموجز، ولكنها إشارات وإشادات ووقفاتٌ مختصراتٌ تغني عن التطويلِ والإكثار. الوقفة الأولى: جواز سؤال الإنسان عما يخاف الوقوع فيه من الشر والفتنة، دليل ذلك قوله - رضي الله عنه -: « كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي»، ولذلك يقال: عرفت الشَّرَّ لا للشَّر لكن لتوقِّيهِ ومن لا يعرف الشَّرَّ من النَّاس يقع فيهِ! ومن هنا نقول: إن على المسلمين جميعًا وطلبة العلم بصفة خاصة أن يتعلموا العلم الصحيح من مصادره الحقة ومعينه الصافي، وذلك من أجل أن يتحصنوا ويعرفوا طرق الخير فيسلكوها، ومن خلال ما تعلموه يدركوا طرق الشر فينتبهوا لها ويحذروها، ويحذروا إخوانهم المسلمين منها، ولا يعاب على المرء أن يسأل عن أبواب الشرور ليأخذ حذره ويحتاط، ويتعلم المخرج مما يخاف الوقوع منه، لكن لا شك أن هذا مزلة قدم، وباب لا يحسن أن يلجه إلا من تمحص بالعلم والفقه والعقل والورع، لئلا يكون سؤاله واستكشافه سببًا لفتنته ووقوعه في الخطر. الوقفة الثانية: مشروعية الخوف والحذر والبعد عن أسباب الخطر والشر والفتنة، لأن هذه صورة الوقاية التي هي أهم وآكد من العلاج، لأن التوقي وعدم مواقعة الخطر والفتنة أسلم لدين المرء وعقله وقلبه، وذلك أنه لا يجد في قلبه أي ميل أو تردد، بخلاف من سقط ووقع في الشر والفتن، فإن رواسب الفتنة ربما تبقى، ويقع في الخلط واللبس، ومن هنا قيل: درهم وقاية خير من قنطار علاج، وهذا يفيد حتى في الجهود التي تبذل لمواجهة الانحرافات الفكرية والسلوكية التي تعد أخطارًا تواجه المجتمع عمومًا والشباب على وجه الخصوص، فما من شك أن توجيه هذه الجهود لتحقيق الحصانة والأمن الفكري والعقدي ووضع الخطط والبرامج والخطوات الإجرائية أهم وآكد وأجدى وأنفع من مراحل العلاج التي ترهق وتُكلِّف، وتبقى نتائجها وآثارها أقل من الصورة الأولى. الوقفة الثالثة: جواز اعتراف الإنسان على نفسه بما وقع فيه من الخلل والنقص والجهل، دليل ذلك قوله - رضي الله عنه - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- : « إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ»، ولا شك أن قوله - رضي الله عنه - هذا دليل على أنه معترف بما كان هو عليه وغيره من الصحابة، ولم يمنعه ذلك أن يُقرَّ بما كان عليه من الجهل والضلال والشرك وغيرها، بل اعترف به أمام سيد البشر محمد - صلى الله عليه وسلم- ، وهذا دليل لنا وتوجيه وقائد ورائد إلى أن نكون مثل هؤلاء الرجال، وألا يقودنا الهوى والنفس الأمارة بالسوء عن التنازل عما نقع فيه من خللٍ وزلل، سواء أكان هذا الخلل في العلم أو في الفكر أو في السلوك، ولا يمكن أن يكون الإنسان مقبولاً محبوبًا وذا مكانة عالية بين أهله وأبناء مجتمعه إلا إذا كان على هذا الطريق، إلا أن المتأمل في حال كثيرٍ من الناس، وخصوصًا طلبة العلم يجد أنه قد يقع منهم خطأٌ وخللٌ ونقصٌ وتقصير، ومع ذلك لا يعترفون به مهما تمت محاورتُهم ومناصحتهم وتوجيههم وبيان الحق لهم. ونحن نعرف أن المسلم يجب أن يكون كيِّسًا فطنًا مدركًا لمصلحته، عارفًا بما يفيده ويفيد مجتمعه، مما يدفعه عن الابتعاد عن الخطأ والمزالق التي قد تؤثر على نفسه وعلى منهجه. وهذا ينقلنا إلى واقع الفئات الضالة والمبادئ المنحرفة، فإن من المداخل المهمة للحوار معهم فتح باب الأمل والحوار والمراجعة من خلال هذه النصوص التي تفيد أهمية الرجوع إلى الحق، والاعتراف بالخطأ والذنب، والشجاعة في هذا الموقف لئلا ينساق وراء الإغراءات أو ما يتوهم أنها مكاسب، أو يتوقف عن هذه الفضيلة مراعاة لصحبة أو رفقة فاسدة، كما حصل من أبي طالب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حيث منعه جلساء السوء من الدخول في الإسلام، وحُرِم الخاتمة الحسنة بسببهم، وذلك عند حضور وفاته، كما ورد في الحديث أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم- وعنده أبو جهل، فقال: «أي عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله»، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به: هو على ملة عبد المطلب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم- : «لأستغفرن لك ما لم أنه عنه»، فنزلت: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (113) التوبة، ونزلت (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (56) القصص الوقفة الرابعة: فقوله: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) المقصود بالظلم هنا هو: الشرك، لأنها لما نزلت هذه الآية شق الأمر على صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، وكبر وعظم في أنفسهم، وقالوا: (أينا لم يظلم نفسه!) فهوّن عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم-. وقال: ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (13) سورة لقمان. وقوله {أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} الأمن هنا كما قال بعض المفسرين هو: الأمن التام، وهذا الأمن التام يتحقق للمؤمن في الحياة الدنيا أولاً بأن يحفظ الله عليه دينه ونفسهُ ومالهُ وعرضهُ وعقلهُ وفكرهُ وضرورياته وحاجياته بل وكمالياته، وشاهد الحال يدل على ذلك، والأمن التام الآخر هو في الآخرة؛ بأن يأمن الإنسان من العذاب والنار فيزحزح عنهما ويدخل الجنة، وهذا هو الأمن الحقيقي. وكل مؤمن ومسلم يسعى إلى تحقيق هذا الأمن بنوعيه في الدنيا والآخرة. يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: {أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} الأمن من المخاوفِ والعذاب والشقاء، والهدايةُ إلى الصراط المستقيم، فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقا، لا بشرك، ولا بمعاص، حصل لهم الأمن التام، والهداية التامة. وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده، ولكنهم يعملون السيئات، حصل لهم أصل الهداية، وأصل الأمن، وإن لم يحصل لهم كمالها. ومفهوم الآية الكريمة، أن الذين لم يحصل لهم الأمران، لم يحصل لهم هداية، ولا أمن، بل حظهم الضلال والشقاء». وقوله:{وَهُم مُّهْتَدُونَ} في طريقهم وعملهم ومنهجهم إلى الرشاد والفلاح في دنياهم وأخراهم، ولذلك فإن حمل هذه الرسالة والقيام بواجب هذا الدين ليس بالأمر الهين، ولا بالذي يأتي بالكسل والخمول والتسويف، أو بطرق أبعد ما تكون عن المصدرين الأصليين، والمنبعين الصافيين لدين الله: الكتاب والسنة، فلا بد لنا من القيام بهذا الأمر، وإظهار خيرية هذه الأمة، وسر اصطفاء هذا الدين، واختياره وما خصه الله به من التمام، والكمال والشمولية والصلاح والإصلاح لكل زمان ومكان وأمة، يقول الله عز وجل: *، وفي الصحيح أن يهوديًا جاء إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقال: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم لو نزلت علينا معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا. قال: وأي آية قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) *المائدة:3*. ولذلك، فإن الله عز وجل رضي للمسلمين هذا الدين فلا يسخطه أبدًا، وأتمه فلا ينقصه أبدًا، و أكمله فلا يقبل الزيادة عليه أبدًا، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. فعلينا أن ننهض ونشمر عن ساعد الجد، ونري الجميع من إخواننا المسلمين وكذا من نعاملهم من غير المسلمين الخير والتعاون على البر والتقوى، وأن نظهر في تعاملنا وسلوكنا ما تضمنه هذا الدين من العدل والإحسان والرحمة والفضل، وكل جوانب الخير المتعلقة بجميع مجالات الحياة، وأن نكون عناصر خير في تقديم ذلك، وأن يكون بقوالب شرعية متناسبة ومتفقة مع شريعة الله عز وجل ومبادئ هذا الدين، ومع ما تتطلبه الظروف والأحوال والتحولات والحوادث والنوازل والقضايا المعاصرة، وأن لا نكون معاول هدم وعناصر شر على هذا الدين وأهله، بل يجب علينا أن نكون في كل أفعالنا وتصرفاتنا وأقوالنا وحركاتنا وسكناتنا نموذجًا حيًا تطبيقيًا لدين الله عز وجل، لأن العالم بأسره والإنسانية بأكملها بحاجة إلى هذا الدين، فهو الغذاء وهو الدواء، وهو العلاج وهو النجاة، ولا يمكن لأحد أن يقوم بذلك إلا من تعلموا العلم الشرعي وعرفوا مالهم وما عليهم، وقدموه للناس جميعًا، بمنهج حكيم، وأسلوب قويم، وطريق رحيم. الوقفة الخامسة: أن أول هذه الأمة خير من آخرها، دليل ذلك في هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم- : «قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي وَيَسْتَنونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ». قُلْتُ: «هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟»، فهذا دليل على أن أول هذه الأمة خير من آخرها، ويدل على ذلك أيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»، قَالَ: وَلاَ أَدْرِي أَعَدَّ قَرْنًا رابِعًا أَوْ لا؟، وقوله - صلى الله عليه وسلم- : «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ»، وليعلم أن ميزة الصحبة لا تعدلها ميزة، ولكن لا يعني ذلك انقطاع الخير في هذه القرون الثلاثة، أو أن الخير لا يوجد في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم- ، بل إن الخير في هذه الأمة كما قال - صلى الله عليه وسلم- إلى قيام الساعة، بل هناك ما يدل على أبلغ من ذلك وأكثر مكافأة ودرجة ورفعة، في أنه يأتي زمان للعامل فيه أجر خمسين من الصحابة، وهذا الزمن يسمى: زمن الصبر، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم- : «فَإِنَّ مَنْ وَرَائِكُم أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ كَأَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ» فهذا موجه لنا أننا إذا سرنا على منهج الله وعلى طريق رسوله - صلى الله عليه وسلم- فإننا بخير، ويوجهنا إلى أن الأمانة عظيمة، والحمل كبير، وعلينا أن نصبر ونعمل من أجل نشر دين الله وتعليم الناس إياه، ولا يكون ذلك إلا بعد أن نحقق ذلك في أنفسنا، وأن نعرف من أنفسنا الصلاح والاستقامة بما يقوله الناس ويشهدون به، وهذا ضابط دقيق وطريق يحتاج إلى العمل المخلص المنطلق من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- المتبع لآثار سلف هذه الأمة. الوقفة السادسة: أن الخير والشر يتصارعان ويتجادلان ويتجاذبان ويتداولان على مر العصور وكر الدهور، ولن يقف ذلك إلى قيام الساعة، يدل على ذلك قوله في الحديث: فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ:»نَعَمْ»، قَالَ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ:»نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ»، وهذه سنة إلهية، وأمر قدري شرعي أراد الله به التمحيص والابتلاء، ولذلك فإننا نعرف من هذا الحديث أن المتمسكين بالحق والقائمين به دائمًا وأبدًا هم في سجال وجدال وحوار ومناظرة مع أهل الباطل، ويستلزم منا ذلك أن يكون لدينا العلم الحقيقي، والقدرة الفائقة على تقديم الحق بأدلته وبراهينه الساطعة، وأن لا ننطلق في أي أمر كبيرا كان أم صغيرا إلا على بصيرة؛ لأن الله عز وجل يقول: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) *، ويفعل ذلك -أي: هذه البصيرة- بأن يكون القول والعمل والدعوة والتوجيه والتربية بحكمة وموعظة حسنة وجدال بالتي هي أحسن، يقول الله عز وجل: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) *النحل:125*، وأبلغ من ذلك وأعمق أثرًا وأبلغ تأثيرًا قول الله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمَْ}؛ فقد ذكر في معنى قوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمَْ} أي: حتى الذين ظلموا منهم لا تجادلوهم ولا تناظروهم ولا تحاجوهم إلا بالتي هي أحسن، وقد قرر ذلك سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله فقال: «فالظالم الذي يقابل الدعوة بالشر والعناد والأذى له حكم آخر، في الإمكان تأديبه على ذلك بالسجن أو غيره، ويكون تأديبه على ذلك على حسب مراتب الظلم، لكن ما دام كافًّا عن الأذى، فعليك أن تصبر عليه، وتحتسب وتجادله بالتي هي أحسن، وتصفح عما يتعلق بشخصك من بعض الأذى، كما صبر الرسل وأتباعهم بإحسان». الوقفة السابعة: في قوله - صلى الله عليه وسلم- عندما قال له حذيفة - رضي الله عنه -: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ:»نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا»، وهذا هو الذي عليه المدار والمقصود بالوقفات والآثار، وإن المتأمل في حال الأمة الإسلامية وما تعيشه من خلاف واختلاف وتناحر وفرقة، وبروز جماعات متطرفة وأفكار منحرفة يرى ذلك واقعًا عيانًا نلمسه ونشاهده ونعاين آثاره كل يوم،:»دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا»، فهناك دعاة التبديع والتكفير والتفسيق العام والخاص، والذين ارتحلوا منهج الغلو والإفراط، وراحوا يحكمون على الناس وفق ذلك وبطريقة أبعد ما تكون عن منهج الله وعن مبادئ الإسلام وسننه، ونتيجة لذلك صار بعضهم ضحية لهؤلاء الدعاة الواقفين على أبواب جهنم، وحطبًا يوقدون بها نارهم ويشعلون بها فتيلهم. وثمة دعاة آخرون على أبواب جهنم، وهم أولئك الذين ارتحلوا منهج الشهوة والتفريط والجفاء والمجون والفسق، وذهبوا يميعون مبادئ الدين ويدعون إلى الانسلاخ من حقائقه وقواعده وأصوله، وينادون بها في كل المحافل وعبر جميع الوسائل المقروءة والمرئية والمسموعة، والعجيب في الأمر أن هؤلاء وأولئك يقولون: نحن أهل الصلاح والإصلاح، ولكن هيهات هيهات، فمنهج الحق واضح، ودين الله بين ظاهر، فأين هؤلاء من الإصلاح؟ بعدوا عن الصلاح والإصلاح كما بعدت الثريا عن الثرى. إن الجماعة الحقيقية التي يجب أن نكون منها ودونها ومن ورائها ومعها في جميع أحوالها وتحولاتها هي جماعة أهل السنة والجماعة والسلف الصالح، التي أخذت بكل ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- ، وطبقتها في كبير الأمور وصغيرها، ودقيقها وجليلها دون النظر إلى أي مؤثرات أو عواد. قال ابن حجر -رحمه الله : «قال ابن بطال: فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين، وترك الخروج على أئمة الجور؛ لأنه وصف الطائفة الأخيرة بأنهم:»دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ»، ...وهم لا يكونون كذلك إلا وهم على غير حق، وأمر مع ذلك بلزوم الجماعة». وقال الكرماني رحمه الله: «فيه: الإشارة إلى مساعدة الإمام بالقتال ونحوه إذا كان إمام، وإن كان ظالمًا عاصيًا، والاعتزال إن لم يكن». الوقفة الثامنة: في قوله - صلى الله عليه وسلم- عندما سأله حذيفة - رضي الله عنه -: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: «هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا»، وهذا هو الخطر الداهم، والسم الزعاف، والشر الذي ليس بعده شر، والفتنة التي لا يمكن لَمُّ أطرفها، وجمع شملها إلا بعون الله وتسديده الذي يكون سندًا ومعينًا في كشف أولئك وفضح منهجهم الخفي الخبيث؛ لأننا إذا تأملنا في هذه الجملة التي نطقها الصادق المصدوق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- نحزن ونتألم ونتعجب كيف أن الأثر السيئ، والعمل الرديء، والانحراف الفكري والسلوكي والدعوة إليه يكون ممن هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا؟ لأن هذا لو جاءنا ممن ظهر من الأعداء وعرفت عداوته لكان الأمر هينًا وواضحًا ومقدورًا على كشفه ومواجهته وعلاجه، ولكن عندما يأتي الشر والبلاء والفتنة ممن يعيشون بيننا، وينعمون بخيراتنا ويتفيئون ضلال الأمن والأمان والإيمان والتوحيد والمعتقد الصحيح والمنهج السليم، بل وقد يُقَدَّمون على غيرهم، فهنا حقيقة يعجز اللسان ويقف القلم، ولا يستطيع الإنسان أن يقول إلا اللهم أكفنا شرهم وشر غيرهم من الأشرار، واكشف عوارهم، وافضح مخططاتهم، واهتك أسرارهم بما شئت. ومن هنا، يجب علينا أن نتأمل في ذلك تأملاً دقيقًا، وأن نتمعن فيه دائمًا وأبدًا، وأن نجعله نصب أعيننا وعلى بالنا فيما يتعلق بتربية أبنائنا وطلابنا في التعليم العام وفي الجامعات ومؤسسات التعليم العالي، وفي المساجد وجميع محاضن التربية والتوجيه والدعوة والإرشاد أيًّا كان مجالها ومكانها، وأن نكون يقظين فطنين لمن يريدنا بسوء أو يعمل ويخطط من أجل أن يؤثر على ما ننعم به من ألفة ومحبة وتعاون على البر والتقوى، بل وأعظم ذلك ما نتفيؤ ظلاله من نعمة التوحيد وإخلاص العبادة لله عز وجل، والتي هي أعظم وأكمل وأتم النعم، ومصدر السعادة في الدارين، يقول شيخنا الشيخ محمد العثيمين رحمه الله: «لو ما يأتي هذه البلاد إلا تحقيق التوحيد لكفى، نعم ليس تحقيق التوحيد وغرسه في القلوب والنفوس والمعتقد الصحيح بالأمر الهين، انظروا إلى البلاد الأخرى تجدون البدع والشركيات والخرافات وغيرها منتشرة، وهي الأصل، أما نحن فنعمة التوحيد الخالص غضة طرية نعيشها كما أنزلت في كتاب الله، وكما بلغنا إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- «، ويضرب شيخنا مثالاً دقيقًا على ذلك، فيقول رحمه الله: «عندما أرادت هذه الدولة المباركة أن ترمم الكعبة اتخذت احتياطات كبيرة، وشَكَّلت لجانا موثوقة ومتعددة؛ لأنها تعلم أنه سيكون للترميم أنقاض وبقايا، وأن هناك من الوافدين للحج أو العمرة أو الزيارة من سيسارع للحصول على حبة رمل من أجل التبرك وغيره»، يقول: «ذهبت إلى هناك، واطلعت على ما يقوم به ولاة الأمر من الحفاظ على هذه العقيدة والذود عن حياض التوحيد، حيث كان العاملون هناك يجمعون كل ما ينتج عن هذا الترميم بكل دقة وأمانة وحرص، ويضعونها في أكياس مشمعة بالشمع الأحمر، ومختومة به، ثم يخرجون بها دون أن يعلم عنهم أحد، ثم يضعونها في سيارات مؤمنة، ثم يذهبون بها إلى وسط البحر الأحمر، ويلقونها هناك حتى لا يصل إليها أحد أيًّا كانت قدرته»، فهل بعد هذا الحفاظ على عقيدة التوحيد وإخلاص العبادة لله عز وجل من عمل؟ وهل بعد هذا الحرص من حرص؟ وهذا يدفعنا إلى أن نقول: إن واجبنا جميعًا أن نكون محافظين على هذه العقيدة وعلى إخلاص العبادة لله عز وجل، وغرسها في النفوس ونشرها، وتكثيف ذلك في جميع المجالات، لأن الملاحظ على كثير من المربين والمعلمين والدعاة والخطباء إغفال هذا الجانب، وإهمال مثل تلك الأصول التي تعد من أعظم ما يبنى عليه الدين، والتركيز على موضوعات جانبية وفرعية. يتبع