من أكثر ما يلفت نظر المراقب في المظاهرات التي فجرتها نتيجة الانتخابات الرئاسية الإيرانية هذا الوعي السياسي، والحيوية الحضارية، للشعب الإيراني. تفصح هذه المظاهرات عن قدرة هذا الشعب على التعبئة، والتنظيم، وقبل ذلك استعداده للتضحية في سبيل حقه السياسي في الحرية والكرامة. حجم المظاهرات وزخمها يشير إلى عمق وعيه، وإيمانه الراسخ بحقوقه إلى حد التضحية. لنتذكر بأن الشعب الإيراني محكوم بنظام ديني يرتكز إلى شرعية عقدية. كان من الممكن في هذه الحالة أن تتحرج القوى السياسية للشعب من التشكيك بشرعية ومصداقية مثل هذا النظام. لأن في ذلك تشكيكا في الأسس الدينية التي يقوم عليها المذهب الإمامي، مما قد يؤدي إلى انتهاك للمقدسات، وتجاوز لخطوط المحرمات. لكن هذه الرؤية لم تتحول إلى رؤية شمولية تشمل كل أطياف الشعب الإيراني. على العكس، كما أن هناك ملايين تؤمن بالالتزام بحدود ومقدسات النظام، هناك ملايين أخرى، علمتها التجربة أن حكم القانون، واحترام الحقوق يشمل الجميع، بما في ذلك السلطة السياسية والمراجع الدينية. من هنا نزل مئات الآلاف إلى الشارع، وأعلنوا رفضهم لممارسات النظام في الانتخابات، ول"التزوير" الذي اعتقدوا أنه متورط فيه. وهذه علامة على حيوية سياسية واضحة. النظام الإيراني أتى إلى السلطة على أكتاف الشعب. وبحكم طبيعته تأسس هذا النظام على أن مراكز السلطة يجب أن تبقى في يد رموز النظام الديني. كان هذا مقبولا، ولم يكن هناك مجال لاعتراض تجربة في بداياتها الأولى. لكن بعد ثلاثين سنة تكشف أن الشرعية الدينية ليست أكثر من غطاء لمصالح وصراعات سياسية تستخدم الخطاب الديني للتعبير عن نفسها. الشعب في هذه الحالة ليس أكثر من موضوع للصراعات، وأداة من أدواتها. والنتيجة التي يفترضها مثل هذا التطور أن الشعب الذي أتى بالنظام السياسي إلى الحكم، وأعطاه الشرعية التي يحتاجها، يراد له أن يخرج من العملية السياسية، وأن يتركها للولي الفقيه، وللمراجع الدينية. لكن الشعب أعلن عن رفضه القاطع لذلك، ونزل إلى الشارع، متحدياً بذلك المنحى الذي انتهت إليه الثورة. وهذه علامة أخرى على وعي سياسي رفيع. الآن وبعد أكثر من أسبوع من المظاهرات الدامية، يبدو أن المشهد الداخلي الإيراني يتجه نحو حالة من التهدئة، لكنها مشوبة بالغموض والحذر. الأزمة ومسبباتها لا تزال قائمة، وليس هناك في الأفق حل مرتقب. هناك قتلى، وجرحى، ومعتقلون من بين المتظاهرين. تبدو حالة التهدئة وكأنها مؤقتة، وقابلة للانهيار. وهنا يسيطر سؤال: هل تعني هذه التهدئة أن الأزمة وصلت إلى ذروتها، وأن عدها التنازلي بدأ منذ الإثنين الماضي؟ أم أنها حالة إنهاك فرضت نفسها. الأرجح أن النظام فوجئ بحجم الاحتجاج. وهذا واضح من تسرع المرشد، علي خامنئي، بتأييد فوز نجاد، ومن تمسكه بموقفه هذا في خطابه بعد أسبوع من المظاهرات. هنا يبدو النظام على أعتاب مأزق كبير. الاعتراف الرسمي بتزوير الانتخابات اعتراف بعدم مصداقية النظام الانتخابية، وبالتالي تشكيك في شرعية الحكم. وعدم الاعتراف يتطلب قناعة المعارضة، ومن ورائها الجماهير التي نزلت للشارع. لكن لعل الشعب فوجئ هو الآخر بقدرته على الاندفاع والمواجهة. في كل الحالات تعرضت شرعية النظام الدينية لانكسار لم تعرفه من قبل. على يد هذا النظام سالت دماء بعض الإيرانيين، وسجن بعض آخر، وتعرضوا للقمع. رفض نتيجة الانتخابات منذ الساعات الأولى لإعلانها، ومن قبل مئات الآلاف من الإيرانيين يؤكد أن النظام بالنسبة لهؤلاء، تعرضت غلالته الدينية لثقوب لا يمكن لها إلا أن تتوسع مع الوقت. وهنا مكمن الخطورة على المدى القريب، وليس البعيد. فالأزمة التي أفرزتها الانتخابات الرئاسية أصبحت الآن حداً فاصلا في تاريخ الثورة، والنظام السياسي الذي أفرزته. كشفت الأحداث أن تطور النظام السياسي على مدى ثلاثين سنه جعله مستعدا لاستخدام الرصاص لمنع الناس من ممارسة الاحتجاج على واحد من أهم حقوقهم، عدم التعدي على صوتهم الانتخابي، واحترامه ووضعه حيث يريدونه أن يكون. من هنا تعكس حالة التهدئة الحالية من ناحية قوة النظام، وقدرته على استيعاب الأزمة، وامتصاص زخمها. ومن ناحية أخرى، تعكس عمق الأزمة، وأن حجم المعارضة وعمقها أكبر مما كان في تصور النظام. من هذه الزاوية تحديداً، تؤشر نتيجة الانتخابات، والأزمة التي فجرتها، إلى أن مفهوم ولاية الفقيه لا ينتمي إلى مجال العقيدة الدينية، بل إلى مجال السياسة، وتحديداً الفقه السياسي. نظام ولاية الفقيه، مثل الأنظمة السياسية الأخرى، هو نظام سياسي، يعمل على أساس من اعتبارات ومصالح سياسية. تاريخ هذا المفهوم يؤكد ذلك. فالولاية السياسية في المذهب الإثني عشري هي حق حصري للأئمة بحكم عصمتهم. لكن غيبة الإمام الثاني عشر وضعت الفكر السياسي الشيعي في مأزق. وعندها برز السؤال: كيف يمكن إدارة شؤون الناس والأمة في ظل غيبة الإمام؟ اختلفت الآراء، حتى جاء آية الله الخميني الذي يتبنى نظرية أن غيبة الإمام تستدعي أن تكون ولاية الفقيه بالنيابة عنه ولاية عامة تشمل الحكم. وعليه، وفي أعقاب الثورة، أسس أول نظام سياسي يقوم على أساس من هذه النظرية. وولاية الفقيه بهذا المعنى هي ولاية مؤقتة حتى يخرج الإمام من غيبته. ومن المعروف أن السياسي بطبيعته دنيوي ومؤقت. في حين أن الديني أو العقدي ليس كذلك، بل هو ثابت، أو يفترض أنه كذلك حتى يوم الدين. ومن حيث طبيعته السياسية يملك نظام ولاية الفقيه القدرة والإمكانيات على أن يكون نظاماً قمعياً، يستظل بظلال الدين كغطاء لطبيعته السياسية. هناك معطى آخر، وهو أن الأزمة انفجرت أساساً بسبب انقسام حاد داخل الطبقة الحاكمة، وهو انقسام وضع الصورة كما هي: الجناح الذي كان يعبر عن معارضته من داخل النظام لجأ أخيراً إلى الشارع، وإلى الكشف عن نفسه، وإعلان معارضته على الملأ. الجناح الآخر يملك أدوات السلطة، ويعتبر أن المعارضة تشكل تهديداً له، وبالتالي لم يتوان عند الحاجة عن استخدام سلطته دفاعاً عن النظام، وتبعاً لذلك دفاعاً عن النفس. في هذا الإطار كان من الطبيعي أن خطاب المرشد الذي دافع فيه عن سلامة الانتخابات وصحتها، كان خطاباً سياسياً. وفي تهديده للمعارضة لم يستخدم أية مجادلة دينية أو عقدية لتبرير موقفه. كان مبرره حماية استقرار النظام. بعبارة أخرى، في اللحظة الحرجة لم يكن بإمكان المرشد إلا أن يتصرف كقائد سياسي. انطلاقاً من ذلك يمكن قراءة الأزمة التي فجرتها الانتخابات على أنها محاولة من قبل قوى سياسية معارضة لسحب الغلالة الدينية التي يتلفع بها النظام تحت مظلة مفاهيم ومرجعيات دينية. بعبارة أخرى تبدو الانتخابات بنتيجتها المثيرة للجدل وكأنها كانت اللحظة المناسبة لتفجير الأزمة من أجل تعرية النظام السياسي، وإرغامه على مواجهة حقيقته على الملأ. والحقيقة أن النظام انجر إلى ذلك، وارتكب أخطاء كبيرة، كلها تؤكد ما تذهب إليه المعارضة. فالمرشد استعجل تأييده لمرشح النظام، أحمدي نجاد، حتى قبل المصادقة النهائية على نتيجة الانتخابات. والأكثر من ذلك كانت حدة رد فعل النظام على الاحتجاجات، وشدة وطأته على المعارضة، وخاصة لجوءه إلى العنف، وفرض حالة من التعتيم الإعلامي على ما يجري. هنا بدا النظام يعمل على إخفاء ما كان يجب أن يظهر إلى العلن. وهو الآن أسير مواقفه المسبقة، والتي آخرها ما أعلن أمس عن رفض مجلس صيانة الدستور إلغاء الانتخابات. في مقابل ذلك رفض الشعب استغلال موقفه المناصر للثورة من أجل تهميشه، والتلاعب بصوته الانتخابي، وأصر على البقاء طرفاً في العملية السياسية، تأكيداً لمبدأ المشاركة الذي من أجله أسقط نظام الشاه. لا نعرف حتى الآن إن كان الهدف يتجاوز هذه الحدود. ربما هذا ليس مهماً الآن. المهم أن الجماهير قالت كلمتها هي: لا نقبل أن نتحول إلى مجرد أداة سياسية في يد النظام، ونحن مصدر سلطاته، ومصدر شرعيته. هذه الحيوية السياسية شيء لافت، خاصة في منطقة خرجت فيها الشعوب منذ أمد طويل من العملية السياسية، وتحولت إلى مجال للطموحات السياسية للأنظمة التي تحكمها.