الملامح التي تبرهن على ضعف أدائنا في مجال هندسة مجتمعاتنا العربية كثيرة ومتناثرة في جنبات حياتنا، حيث يمكن لعينك المتفحصة أن تقع على العديد من الشواهد التي تجعلك تقف مدهوشاًَ أمام سر عجزنا وتقصيرنا في معالجة بعض القضايا، بدءاً بهزال التشخيص العلمي للظواهر والمشاكل ومروراً بضعف ممارساتنا في عمليات التخطيط والبناء والحماية والإبداع. ولعله يكفي أن نتناول قضية أحسب أننا صببنا عليها قدراً كافياً من (زيت) التهميش وعلى (نار) صمتنا المطبق تجاه القضايا الهامة وغير الملحة، طبخناها في (قِدر) المواضيع المؤجلة إلى إشعار غير معلن وربما غير محدد!. أطفال الشوارع أم أطفال في الشوارع! سيكون الحديث عن أولادنا الهائمين في الشوارع، غير أن تحليلنا هنا لا ينصرف إلى ما يسمى ب (أطفال الشوارع) بل (أطفال في الشوارع)، فأطفال الشوارع كمصطلح يعني كما عند اليونسيف: كل طفل يقل عمره عن 17 سنة لا يلقى دعماً ورعاية مادية وعاطفية ونفسية من عائلته، إنه يشير إلى من يقيم أو يقضي أكثر وقته في الشارع نظراً للفقر الشديد والطلاق والتشرد والتسرب من المدارس وغير ذلك من الأسباب، وأطفال الشوارع ظاهرة عالمية، وللعالم العربي - بطبيعة الحال - حظه الوافر منها حيث يقدر أعدادهم ما بين 7-10 ملايين وفق دراسة أعدها المجلس العربي للطفولة والتنمية. أما مصطلح الأطفال في الشوارع - وهو مدار اهتمامنا في هذا الموضوع - فهو يعني الأطفال الذين يمضون أوقاتاً في الشارع أو ما يشبه الشارع في سماته وانعكاساته على نفسية الطفل وثقافته وسلوكه كالحدائق والاستراحات ونحوها، إذن سينصرف تحليلنا لأولئك الأطفال الذين يمضون أوقاتاً في تلك الأماكن، مع العلم بأننا سنستخدم الشارع لرمزيته وخطورته. أولادنا الهائمون في الشوارع... مسؤولية من؟ عندما تتجول ماشياً أو راكباً في شوارعنا فستجد حتماً (أكواماً) من الشباب بمختلف الأعمار يجلسون على حافة الشارع أو يستندون إلى إحدى السيارات أو يمتطون صهوة (دراجاتهم) النارية وغير النارية.. وحين تتعمق في أحشاء حارتك التي تسكن فيها فسترمق لا محالة لفيفاً من الشباب يتبعثر هنا وهناك وذلك حتى منتصف الليل وربما ساعات الفجر (الصادق!).. لا يجمعهم سوى الرغبة (الصادقة) والتصميم (الأكيد) على (قتل) الوقت بكلام فارغ وشرب للدخان ومشاهدة للتفحيط وفضول يستبيحون به عرض الغادي والرائح، يمضون أوقاتاً طويلة مع بعضهم البعض، لدرجة الاندماج الفكري والتوحد العاطفي، ونحن كمتجمع لا نكاد نحرك ساكناً ولا نقوم بعمليات الهندسة الاجتماعية لأوضاع أولئك الشباب.. أو يعقل أن يتخلى المهندسون الاجتماعيون البارعون عن مهنتهم الشريفة ورسالتهم البنائية تجاه (آمال) المستقبل من فتيان وفتيات، أو يتخلون عن رسالتهم لغيرهم من مهندسي البلادة ومصممي التخلف ومبتكري الجريمة، وأحسب أنه يمكننا أن نطرح بعض الأسئلة التي قد تحمل بذور الحل وشيئاً من وقود حركة الألف ميل، والحقيقة أن تلك الأسئلة كثيرة ومتعددة، غير أنه يسعنا الإشارة إلى بعضها في خطوط عريضة كما يلي: * أليست (الشوارع) تؤهل - بكل اقتدار - أولئك الشباب ليصبحوا عناصر فاشلة في مجتمعهم؟ * ألا تمنح الشوارع بعض الشباب فرصاً ذهبية للحصول على بطاقات عضوية في عصابات الجريمة المنظمة وغير المنظمة؟ * ألا يمكن أن يتطور الوضع إلى مرحلة الهروب من المنزل؟ * أليس من المحتمل أن ُيستغل بعضهم جنسياً، وما يتبع ذلك من تدمير البنية الدينية والأخلاقية والنفسية والصحية للأطفال المعتدى عليهم؟ خاصة أن بعض الدراسات تشير إلى نسبة تقترب من 80% من الأطفال الذين يتعرضون للاغتصاب يمارسونه على غيرهم حين يكبرون!. * أليس ثمة احتمال بإمكانية احتواء بعضهم في جماعات التكفير والعنف؟ * هل قمنا بواجبنا تجاه توفير التوجيه الاجتماعي والنفسي والمهني لكافة شبابنا؟ * هل وفرنا الاستثمارات الكافية وأبدعنا في صناعة المشاريع والبدائل الترفيهية للشباب في جميع مدننا وقرانا وأريافنا؟ * ألا يحق لنا التساؤل وبكل جسارة عن دور عوائل أولئك الشباب الهائمين في الشوارع؟ نعم أين أولياء أمورهم؟ * كيف ترضى تلك العوائل بتدمير أولادهم وسحق مستقبلهم في محاضن (الشوارع)؟ * هل يعي هولاء الناس خطورة إهمالهم لأولادهم؟ * ألا يمكن أن يتحولوا من (أطفال في الشوارع) إلى (أطفال شوارع)؟ * من المسؤول عن إيصال جرعات الوعي اللازمة لتلك العوائل؟ هل الجانب التوعوي وظيفة تؤدى من قبل بعض مؤسساتنا بفلسفة (إنجاز العمل) عبر نشرات وبرامج محدودة أم أنها رسالة يجب أن تؤدى بفلسفة (إنجاح العمل)؟ * وفي حالة تقصير عائلة عن أداء دورها إما لانشغال أولياء أمور الشباب أو سفرهم أو سجنهم أو جهلهم أو انحرافهم، هل يسع المجتمع ألا يقدم شيئاً لأولئك الشباب؟ * إن عُدِم الوعي لدى بعض العوائل هل يفقد المجتمع وعيه هو الآخر بدوره ورسالته؟ * ثم إن أهمل بعضُ الناس أولادهم أليس المجتمع مسؤولاً عنهم عبر مؤسساته وفعالياته ونخبه ووسائله وموارده وأنظمته وتشريعاته؟ * ألا يمكن أن نوجد نظاماً نمنع فيه الأولاد في سن معينة من الخروج إلى الشارع بعد وقت محدد بحيث تعطى مخالفات (مالية وقانونية) لأولياء الأمور الذين لا يحافظون على أولادهم على أن تتبع تلك المخالفات بحزمة من الإجراءات القانونية الصارمة في حالة تكرار المخالفة؟ * ألا يتوجب علينا تفعيل نظام إلزامية التعليم الذي صدر من مجلس الوزراء الموقر؟ * ألا يمكننا تبني اليوم الدراسي الكامل أو أفكاراً مشابهة؟ * ألا يمكن أن نطوّر آلية محددة للإفادة من طاقم المعلمين والمرشدين الأكفاء في عملية التوجيه والضبط الاجتماعي في أحيائهم بعد تدريبهم وتأهيلهم في مجال الإرشاد الاجتماعي والنفسي مع تخصيص بعض المكافآت المالية والمعنوية لهم في إطار برنامج عمل وطني متكامل تشرف عليه وزارة الشؤون الاجتماعية؟ * أما يمكننا الإفادة من (مراكز الأحياء) الوليدة التي ترعاها وزارة الشؤون الاجتماعية وتحمل بذوراً إصلاحية ورؤى تنموية؟ حقاً إن التعجب ليستبد بك عندما تتأمل في هذه الحقائق التي نشاهدها صباح مساء في شوارعنا وبالذات في الأحياء القديمة أو الفقيرة، كيف لا يفترسك الحزن ولا يستبيحك القلق ونحن كمجتمع بمؤسساته وباحثيه ومثقفيه وموارده لا نتعامل بذكاء كافٍ مع تلك الظواهر والقضايا، فنحن لا نتدارسها بشكل متعمق ولا نهتم بها كما يجب ولا ندرك خطورتها بدليل تغافلنا عنها، فنحن لا نستكتب العلماء والباحثين المرموقين لكي يشخصوا تلك الظواهر والقضايا من خلال سلسلة من الأبحاث العلمية والنقدية التراكمية عبر ندوات ومؤتمرات عميقة ومراكز بحثية متخصصة، الأمر الذي افقدنا القدرة الخلاّقة على صناعة بدائل ثقافية واجتماعية وتربوية للكثير من مشاكلنا وأزماتنا. ويجب ألا يفهم أنني أنفي وجود أي أبحاث أو دراسات ولكنني أشير إلى ندرة تلك الأبحاث والدراسات، إذ الواجب أن يكون لدينا أبحاث ودراسات متعددة وبشرط أن نستخدم فيها مناهج علمية مختلفة وألا نركز على الأبحاث الكمية التي تعنى بالوظيفة الوصفية أكثر من الوظيفة التفسيرية أو التنبئية كما أنها تعنى باختبار الفرضيات التي نشتقها من نظريات ونماذج غربية أكثر من عنايتها بتطوير نظريات ونماذج جديدة في ضوء الإطار الثقافي والحضاري لمجتمعاتنا وهذا ما يستدعي العناية بالأبحاث النوعية (الكيفية)، ولكي نحمل قدراً كافياً من الاطمئنان لنتائج أبحاثنا يتعين علينا القيام بسلسة من الأبحاث النقدية التي نمارس فيها النقد المنهجي للدراسات المنفذة، هذا ما أقصده عندما أتحدث عن ضعف جهودنا البحثية!. وفي مجتمعاتنا ينضاف للقضية التي تناولناها - الشباب الهائمين في الشوارع - قائمة طويلة من القضايا والمشاكل والأزمات التي لم تنل منا عناية تذكر، فلدينا مثلاً: مواضيع البطالة، وضعف التحصيل العلمي، وهزال التأهيل المهني، وضعف الفعالية والإنتاجية، وانجفال الشباب عن الحرف المهنية واليدوية والتراثية، والعنوسة، والطلاق، والمشاكل الزوجية، والعنف الأسري، ومشاكل التعامل الوالدي وأنماطه، وهروب الفتيان والفتيات، والمعاكسات، والتحرش الجنسي، والاعتداء الجنسي، والتدخين، والمخدرات، وإدمان الإنترنت، والتعصب بأنواعه، والفساد المالي والإداري، واهتزاز الهوية، والمشاكل العاطفية، والفراغ الروحي، والسرقة، وجرائم الأحداث، فضلاً عن مشاكل التطرف والتكفير والعنف، هذه القضايا وغيرها تدفع باتجاه المطالبة بإدخال تلك الموضوعات وغيرها في نطاق الهندسة الاجتماعية التي تبدأ بعملية التشخيص الدقيق للظواهر والتدقيق في بواعثها الكبرى ومولداتها الاجتماعية والنفسية والثقافية والسياسية والاقتصادية، والحقيقة التي لا مفر منها أن ضعف التشخيص سمة بارزة للمجتمعات الأقل ذكاءً، وأحسب أن ثمة خطوات يمكن أن تعيننا على القيام ب (فريضة) التشخيص على نحو يخرجنا من دائرة تلك المجتمعات، فمن تلك الخطوات - في نظري - أن نعمل على قياس الاتجاهات لكافة الشرائح الاجتماعية إزاء الظواهر والمشاكل التي ألمحنا إلى شيء منها.. ولكن ما هي الاتجاهات؟ ولماذا نقيسها؟ وكيف؟ وما هو دور وزارة الشؤون الاجتماعية والمؤسسات الأخرى ذات الصلة؟ هذا ما نستعرضه بتفاصيل ملائمة في المقال القادم بعون الله تعالى.