الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين , ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد : فقد كنت أتأمل بيني وبين نفسي في حال أصحاب المعالي وهم يؤدون القسم بين يدي ملك من ملوك الدنيا , وهو بشر مثلهم , لايملك لنفسه حولا ولاطولا , ولاضرا ولانفعاً , إلا ماقدَّره الله له , وأقدره سبحانه عليه بمشيئته وحكمته , وكيف أنهم يُقسمون أمامه بالملك العظيم (الله), الذي هو أعظم مُقْسَمٍ به , وأكبر شيء شهادة , الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه النشور . تأملت وأحدهم يضع يده على كتاب الله إعظاماً وإجلالاً , وتوثيقا لهذا العهد وإشعارا بقداسته, ثم يُقسم بملك الملوك , أن يكون مخلصا لدينه , ثم لمليكه ووطنه , واللهُ من فوق سبع طِباق يراه , ويسمع مانطقت به شفتاه , والملائكة الكرام يسجلون , وكل شيء في كتاب مسطور . لقد أرهبني هذا الموقف حقَّا , واستدر من عيني الجافة دمعها , وتذكرت قول الحق تبارك وتعالى : ( وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ) , وقوله جلَّ وتقدَّس : ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) , فرأيت أن من واجبي , وانطلاقاً من وصية حبيبي بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم , ففي صحيح مسلم رحمه الله , عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الدين النصيحة , قلنا : لمن ؟ , قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) , أن أقوم بتذكير أصحاب المعالي وإخوانهم بعظمة ما أقسموا عليه , وأن قسمهم له مابعده , ذلك أن الله تعالى قال : ( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا ) , لاسيما والعهد الذي يعاهدون الله عليه , متعلق بغيرهم أكثر من تعلُّقه بأنفسهم , فهم أمناء على تلك الأعمال , ورعاة على تلك المصالح التي تولوا زمامها , والأمانة عظيمة , والحمل كبير , والناس بحاجة إلى ماينفعهم في دينهم ودنياهم , قبل أن يأتي يوم يبرأ فيه القريب من القريب , والحبيب من الحبيب , ولا يرى الإنسان فيه إلا ماقدَّم , فإن كان محسنا تمنى أنْ يكون استزاد , وإن كان مسيئا تمنى أنْ يكون استعتب وتاب , ولكن هيهات هيهات وقد جعل الله لكل أجل كتاب . تأملت وتفكرت في حال من أحسن في أداء الأمانة , وماوعده الله من الجزاء الموفور , ثم نظرت في حال من ضيَّعها أو استهان في شأنها , أو قدَّم محبوبات نفسه أو محبوبات من ارتبطت مصلحته الدنيوية به أو عنده , على حقِّ الله تعالى , ثم حقوق خلقه , فلم يُحط تلك الأمانة بنصحه , ومات وهو غاش لها , وأن الله توعده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بالحرمان من الجنة , ففي صحيح البخاري رحمه الله أن عبيد الله بن زياد رحمه الله عاد معقل بن يسار رضي الله عنه في مرضه الذي مات فيه فقال له معقل : إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم , سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة ) , هذا فوق ما له من الخسارة في الدنيا , ومن أعظم تلك الخسارة , براءة النبي صلى الله عليه وسلم منه , ففي الحديث : ( من غشنا فليس منا ) . يا أصحاب المعالي : إنكم تقسمون بالله تعالى على أن تخلصوا لدينه , ومعلوم أن هذا القسم العظيم يحتاج منكم إلى وقفة تأمل ومحاسبة , فدين الله الذي أقسمتم على الإخلاص له مصدره الوحيان , الكتاب والسنة , وهذا يعني أنكم تُقسمون بالله قسما عظيما أن تلتزموا نصوص الوحيين بكل إخلاص وصدق , وأن تتركوا كلَّ نص يخالفهما , وأن تحملوا الناس على الأخذ بهما , والتحاكم إليهما , والرضى بما فيهما , وأن تعلموا أن الإخلاص للمليك والوطن تابع للإخلاص للدين , وليس مستقلاً عنه , ولهذا فمن كان مخلصا لدينه , فسيخلص لمليكه ووطنه , ومن أعظم الإخلاص للمليك مناصحته بصدق , ونقل الواقع له بشفافية , ووضعه أمام الحقيقة الجليَّة , والبعد عن المداهنة التي تضيع بسببها حقوق الله وحقوق خلقه . إن الإخلاص للمليك يقتضي تزويده بالمشورة الصادقة , التي تكون سببا لقيامه بمسؤولياته كما يجب , وسبيلا لوصوله للهدف النبيل , ونجاة له بإذن الله من سوء الحساب يوم القيامة , ولهذا فالمُقْسِم بالله على أن يخلص لمليكه , يتحتم عليه أن يتقي الله في هذه الأمانة التي أقسم على تأديتها بإخلاص , ويجب عليه أن ينصح له كما ينصح لنفسه بل أشد , وذلك أن نصيحته لنفسه تعلقها به وحده , بينما نصيحته للملك يتعدى أثرها إلى كل من تحت يده . كما يجب على الناصح أن يتحرى في نصيحته أهداف الشرع ومقاصده , وأن يستشير -في ما يريد عرضَه - أهلَ الشأن ؛ لأن بعض الناس قد يزين له الشيطان أمراً فيراه حسنا , ولهذا فاستشارته لمن هو أعرف منه وأعلم , قد تكشف له ما غاب عنه من فساد ذلك الأمر , وتدله على ماهو أصلح منه وأنفع . كما إن الإخلاص لهذا الوطن ليس لترابه ولا لأحجاره , بل لما يشتمل عليه هذا الوطن من سكان , وما أودعه الله فيه من مقدسات , وما أكرمه الله به من انطلاق رسالة الإسلام من أرضه , ولهذا فالإخلاص للوطن يلزم منه أن يعمل العامل بما يخدم تلك الاعتبارات , فيقوم بما يحفظ لهذا الوطن مكانته في نفوس المسلمين , ويحفظ له خصوصيته في أعينهم وقلوبهم , ويحفظ لأهله حقهم في العيش فيه بأمان في كل مناحي الحياة . والإخلاص للوطن يعني أن ينصح المسؤول لأهل الوطن أشدَّ من نصحه لنفسه , وأن يحب لهم مايحبه له , وأن يكره لهم مايكرهه لنفسه , وأن يكون عيناً على مصالحهم , وعونا لهم لنيل حقوقهم , ساهرا لراحتهم , مؤديا لأمانتهم , أمينا على أموالهم التي بين يديه , وعقولهم التي أوكلت إليه مسؤولية تثقيفها وتعليمها ورعايتها , وأبدانهم التي تحمل واجب صيانتها وحمايتها , فالتعليم والإعلام والصحة والقضاء وما في حكمه ومعناه , كلها جهات تعنى مباشرة بما سبقت الإشارة إليه , وغيرها لايقل عنها في الأهمية , ولهذا فالإخلاص للوطن يستوجب مراعاة ذلك كله . وإذا وجدت هذه المعاني لدى المسؤول , فليعلم الجميع أن المجتمع سيعود بحول الله لربه حامدا , ولقيادته شاكرا , وللمسؤول بخيرٍ ذاكرا , وهذا هو المرجوُّ والمأمول . اللهم إني أسألك أن تلهم الإخوة رشدهم , وأن تعينهم على ماتحملوه من أماناتهم , وأن تفتح لهم فتحا مبينا , وأن تهديهم صراطا مستقيما , وأن ترزقهم سدادا في الرأي , وثباتا على الحق , ورغبة في الإصلاح , وحبَّا للخير , وأن تجنبهم الشرَّ وأهله , وأن تعيذهم من نزغات الشياطين, وأن توفقهم للمسلك السوي , والأمر الرضِي . اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه , والباطل باطلا وارزقنا اجتنابه , ولاتجعله ملتبسا علينا فنضل . اللهم أصلح أحوال المسلمين وردهم إليك ردا جميلا اللهم أصلح الراعي والرعية هذا والله أعلى وأعلم , وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .