السعادة هي طاقة تشع بها النفس فتستجيب لها مشاعر الإنسان وأحاسيسه، وعندما يتحول هذا الضوء أو هذه الطاقة من العالم اللامحسوس في النفس إلى العالم المحسوس وهي المشاعر والأفكار والتخيلات يبدأ التحول في سلوك الإنسان وممارساته وفي شكل علاقاته مع الآخرين. وأهم هذه التحولات التي يعيشها الإنسان السعيد هو الحصول على المزيد الإيجابي في نظرته لنفسه وللحياة من حوله. فالوجود كله محض خير، ومشكلة الإنسان مع السعادة هي في قدرته على رؤية هذا الخير ومقدار استطاعته على الإمساك به، وهذه القدرة والاستطاعة يتحدد قدرها ومقدارها بما يصب أو يسكب في نفس الإنسان من نور إلهي ورحمة ربانية عابرة إليها من الروح. فنفس الإنسان يزداد نصيبها ويزداد حظها من هذا النور ومن هذه الرحمة الربانية المتجددة وغير المنقطعة كلما كانت أكثر طهرا وأكثر نقاء وصفاء، وقلنا سابقا إن الأخلاق الحسنة هي أعمدة نور تدفع بها الروح إلى النفس لتنظيفها وتنقيتها، وبالتالي جعلها أكثر اتساعا وأكثر رحابة لتلقي كل هذه الفيوض الإلهية القادمة من الروح. فالسعادة الحقيقية هي أن ترى الخير الموجود أصلا في نفسك وفي الوجود المحيط بك، فمن يرى الخير ويحس بوجوده كيف لا ينعكس ذلك على نفسه وألا يعيش السعادة ولا يشعر بها، ولكن المشكلة هي هل أننا عندنا من هذا الضوء ومن هذه الطاقة ما يكفي لرؤية هذا الخير. فهناك من عنده القليل من هذا الضوء، ولعل ما يجمعه في وعاء نفسه لا يكفي إلا لرؤية القليل من هذا الخير، وبالتالي تكون هناك مساحة كبيرة من الظلام تشعره بالخوف والوحدة وتوحي له بالوحشة وتثير عنده القلق والاضطراب وهذه كلها تنتهي بالإنسان إلى الشعور بالكآبة وعدم الإحساس بالسعادة. وهناك من الناس من اجتهد وتعب على نفسه وارتقى بها في مراتب الأخلاق الحسنة وبذلك اتسع وعاؤه النفسي واستحق المزيد من النور الإلهي والرحمة الربانية، وصار بهذا النور يرى قارات ممتدة من الخير الكثير، وينعكس هذا عليه بالمزيد من الإحساس بالسعادة والمزيد من الشعور بالراحة والطمأنينة والاستقرار. فالشقاء إذا هو تلك المساحة غير المرئية من الخير وليس غير الموجودة، فكلما ازدادت هذه المساحة غير المرئية من الخير عند الإنسان ازداد شقاؤه وازدادت تعاسته، وكلما انكمش وتقلص هذا غير المرئي من الخير وصار المرئي منه أكبر وأكثر اتساعا صار الإنسان أكثر سعادة. ومن نعم الله -سبحانه وتعالى - على الإنسان أن أمده بهذا النور وجعل مدده من هذا النور الرباني متواصلا وغير منقطع وترك للإنسان الخيار في التعرض لهذا النور والاستزادة منه بشرط أن يأتي إليه، إلى الله، بوعاء نفسه وسيعطيه على قدر سعة هذا الوعاء، ''ورحمتي وسعت كل شيء'' الآية رقم 156، سورة الأعراف، ''وكل شيء عنده بمقدار'' الآية رقم 8، سورة الرعد،. فسعادة الإنسان هي في جهاده مع نفسه حتى يبقيها نقية طاهرة لتتلقى هذا النور وهذه الفيوض الربانية، ولتتسع بهذا النور لتتلقى المزيد والمزيد منه في طريق التكامل والقرب من الله سبحانه وتعالى، ''يأيها الإنسان انك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه''، الآية رقم 6، سورة الانشقاق،. وهذا المعنى هو الذي نستوحيه من كلام الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، ''والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا''، الآية 69، سورة العنكبوت، فمن يريد أن يرى الخير وأن يهتدي إليه عليه أن يجتهد في إزالة كل ما يمنع من وصول نور الله إلى نفسه، وهذا الجهاد، جهاد النفس، هو الجهاد الأكبر كما سماه نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن النفس هي المحطة الأهم في طريق الإنسان للوصول إلى السعادة. فإذا كانت السعادة هي الجائزة الكبرى في هذه الدنيا وهي قمة ما يتمناه الإنسان في حياته فمن العدل ألا ينالها الإنسان إلا بجهاد أكبر وهو جهاد النفس. ومن الأمور المهمة التي ذكرها الدكتور بن جودة في مقياسه للسعادة والتي تؤدي بالإنسان إلى السعادة، ''حسن النية''، فالإنسان من طبعه أنه يسعى للتواصل وبناء أشكال متعددة من العلاقات مع الآخرين وتتأثر سعادة الإنسان سلبا أو إيجابا بنوع هذا التواصل وبكيفية بناء هذه العلاقات، ولكن تتحدد سلامة هذا التواصل وهذه العلاقات بمقدار ما يضمره الإنسان في داخل نفسه من حسن نية. فالتواصل مع الآخرين هو مجرى نهر عظيم يصب في بحر سعادة الإنسان، ولكن المشكلة عندما تتلوث مياه هذا النهر، نهر التواصل، بالنوايا السيئة ومن ثم يصب هذا ماءه الملوث بسوء النية في نفس الإنسان، وعندها تنمو وتتكاثر أشكال متعددة من الأورام النفسية اللاأخلاقية، فهناك سوء نية ربما يتبعها الإنسان بغش وخداع وهناك سوء نية آخر يلحقه اعتداء على حقوق الآخرين، وهناك سوء آخر يبنى عليه ظلم أو إخفاء للحقيقة، وهكذا ينتهي سوء النية بالإنسان إلى نفس مظلمة وموحشة لكثرة ما فيها من حجب تمنع نور الله من الدخول إليها، وعندما يخيم الظلام على النفس تظلم حياة الإنسان لأن الظلام لا يأتي إلا بالوحشة والخوف والقلق وعدم الاستقرار وهل يمكن للإنسان أن يحس بالسعادة وعنده كل هذا الخوف وكل هذه الوحشة. من الصعب أن نحيط بكل ما يعطيه حسن النية من عطاء يعود على الإنسان بالسعادة لأن هذا الخلق العظيم لا يناله الإنسان إلا بالمجاهدة العظيمة مع النفس، ولكن حسن النية يستحق هذه المجاهدة لأنه في النهاية يحصل هذا الإنسان على حزمة كبيرة من النور الإلهي وقبضة ثقيلة من الرحمة الربانية التي تضيء له عالم الخير الذي يحيط به من الداخل والخارج. ولكن هذه الصعوبة لا تمنعنا من ذكر بعض عطايا حسن النية التي تصعد بالإنسان في مراتب السعادة، فمن هذه العطايا ما يلي: 1- راحة الضمير: أن الضمير هو مكون مهم في النفس الإنسانية وهو بمثابة المعيار الذي يحدد خيرية ما يقوم به الإنسان من أفعال وممارسات، وكلما أشار هذا المعيار إلى وجود للخير دب في الإنسان شعور قوي بالسعادة والاطمئنان. فحسن النية يعني وجود الخيرية ابتداء، وبالتالي يحس الإنسان بالسعادة وبأن هناك انسجاما وتوافقا بين ما يقوم به وبين ما يمليه عليه ضميره. فالإنسان في العموم يتوق إلى أن ينال رضا ضميره لأنه يعلم أن عدم الرضا له وجع نفسي يسلب منه راحته ويقوض عليه أركان سعادته. وقد يظن الإنسان أنه قادر على أن يخضع ضميره وأن يجعله مساكنا لما يقوم به من غير اعتراض عليه، ولكن الضمير هو صوت الحق وهو معيار الخير الذي لا يخضع لإرادتنا ولا تميل به رغباتنا وأهواؤنا، وبالتالي قد يصم هذا الإنسان حواسه عن سماع صراخ الضمير واعتراضه عليه، ولكنه لا يستطيع أن يمنع نفسه من تحسس ما يحس به من الألم والمعاناة بسبب وجع الضمير والذي هو من أشد أنواع الآلام النفسية. 2- حسن النية وتوسيع النفس: ذكرنا أن الأخلاق الحسنة عموما توسع وعاء النفس عند الإنسان وبهذا التوسع تتلقى النفس المزيد من اللطف والعناية والنور الإلهي، وبذلك تكون نفس مرضية عليها من خالقها. والإنسان عندما يصل بنفسه إلى مراتب عالية من الوسع والرحابة يكون أقدر من غيره على استيعاب الحياة بإقبالها وإدبارها. فلا يستطيع الإنسان أن يطلب السعادة لنفسه وهي ضيقة لكثرة ما تراكم فيها من ممارسات لم يبتدئها الإنسان بالنوايا الحسنة، فمثل هذه الأعمال تبقى غريبة في النفس، فلا النفس قادرة على أن تهضمها ولا هي قادرة على التخلص منها، وبذلك تضيق وتضطرب النفس بوجودها. والمهم فيما يعطيه حسن النية في توسيع النفس هو في جعل هذه النفس منفتحة على الآخرين من خلال حسن الظن بهم، ولعل من أكبر العوائق التي تعوق التواصل بين الناس هو سوء الظن والإنسان المتمرس على حسن النية هو أحسن الناس ظنا بالآخرين. 3- الاهتمام بالآخرين: أن حسن الظن هو إلزام الإنسان لنفسه لأن تكون صادقة مع الآخرين، وأن تكون حريصة على حفظ حقوقهم بمقدار حرصه على حقوقه ومصالحه، والشعور بمثل هذا الالتزام يعزز الجانب الإنساني في شخصية هذا الإنسان. ويحقق الإنسان السعادة بمقدار قربه من أصله الإنساني، الفطرة، حيث يؤهله هذا القرب للحصول على المزيد من الفيض الإلهي والرحمة الربانية، ولكن من أهم العوائق التي تعترض طريقه للتقرب من منبع الخير هي الأنانية وحب الذات، وبالتالي فإن ممارسة حسن النية تساعد الإنسان على التخفف من الأنانية والتعلق الشديد بالذات. فإذا كان العمل الصالح يوزن بما فيه من خير ومنفعة للآخرين فإن النصيب الأكبر من سعادة الإنسان لا يتحقق إلا من خلال الاهتمام بسعادة الآخرين. ورحم الله الشاعر الباكستاني إقبال وهو يرد على أحد جلسائه عندما قال، لماذا اختار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العودة إلى الأرض، وقد وصل في معراجه إلى قاب قوسين أو أدنى، أجاب بأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان يرغب في المزيد من العطاء لأمته حتى يزداد قربه من الله سبحانه وتعالى فيزداد سعادة، فأهل حسن النية هم أكثر الناس سعادة لأنهم يرون سعادتهم في سعادة الآخرين. ويقول جبران خليل: ليس في الغابات حزن لا ولا فيها الهموم فإذا هب نسيم لم تجئ معه السموم ليس حزن النفس إلا ظل وهم لا يدوم وغيوم النفس تبدو من ثناياها النجوم (د.هاشم عبد الله الصالح - الاقتصادية )