يقول الخبر: "كشف مصدر مسؤول عن أنه عُثر على 40 مليون ريال نقداً كانت مخبّأة في سرداب داخل منزل كاتب عدل في جدة ضمن كتّاب العدل الأربعة المتورطين في قضية تزوير صك أرض"... إذا كانت هذه هي قيمة الرشوة لفضيلة الكاتب غير العدل، فكم هي قيمة العقار المغتصب؟ وإذا كان هذا هو مبلغ الرشوة المكتشفة، فما مبلغ الرشا غير المكتشفة؟ إن مراقبة الحسابات البنكية لكتّاب العدل وغيرهم ممن يولون أعمالاً ووظائف تمر من خلالها صفقات الملايين والمليارات؛ إجراء مطلوب ولا شك، لكنه وحده لا يكفي، فهذه الأربعون مليوناً المطمورة في السرداب تشهد بأن من المتيسّر على صاحب الوظيفة الحساسة تجاوز هذا الإجراء الاحترازي، والبركة في السرداب، ربما لو كُشف للناس الحساب المصرفي لهذا الكاتب غير العدل لشهدوا أنه من أنزه كتاب العدل! من الخطورة أن تُجعل لكاتب عدل واحد صلاحية استخراج صك لأراضٍ تبلغ قيمتها عشرات الملايين، ليصبح توقيعه وختمه كافياً لاكتساب الصك الشرعي النظامي! والتعويل على الوازع الديني والأمانة والثقة في وظائف كهذه دون الصرامة في الرقابة والإجراءات الاحترازية المانعة؛ ما هو إلا تعريض النفوس الضعيفة لفتنة المال. هذه القضية مع قضايا كثيرة مشابهة، تكشف عن خلل في النظام، وضعف في الرقابة والشفافية، ولين في العقوبة، ومن المضحك أن يعاقب هؤلاء المجرمون المختلسون أو المرتشون بإعفائهم عن مناصبهم، فلا يُفهم من هذه العقوبة إلا منحهم إجازة طويلة بلا راتب، ليتفرغوا لاستثمار ما نهبوه أو ارتشوه من عشرات الملايين. يجب أن تعمّ سلطة الرقابة الموظفين كلهم بلا استثناء، لا تحجزها عن أحدٍ مضافات الألقاب الشرعية ولا غيرها من الحصانات التي تستغل في غير محلها، حتى لو كان الموظف كاتب عدل أو قاضياً أو أستاذاً جامعياً أو وزيراً... إلخ. والذي يُفسر المطالبة بتعميم هذه السلطة الرقابية على الجميع، بأنها طعنٌ في الأمانات، وحجبٌ غير مشروع للثقة عن الثقات الأثبات، فهو بلا شك منتفع من قصر السلطة الرقابية على بعض الموظفين دون غيرهم. ثم أين قاعدة سد الذرائع التي صار يُعمل بها في كل ميدان إلا في هذا الميدان، الذي يتقاتل عليه أصحاب الثراء غير المشروع؟ أليس من أهم الذرائع التي يجب أن تُسد هي هذه الذريعة التي منها تذرّع كاتب العدل لرشوته؟! لماذا صارت قاعدة سد الذرائع لا يُعمل بها إلا في القضايا اليسيرة التي لا تضيق إلا على دهماء الناس؟ بقي أن يقال: إن من الظلم أن تطول التهمة كتابَ العدل بعمومهم، فيجعل الأصل فيهم هو الخيانة والارتشاء ما لم يثبت عكسه! كما أن من الجناية على المنهج الحق المعوِّقة لحركة الإصلاح أن يُجعل أحد فوق النقد من أجل أنه قاضٍ أو كاتب عدل، فتطوى مثلُ هذه القضايا دون وقفة طويلة تكشف منافذ الخلل وتبحث سبل إصلاحه، فلا هذا ولا ذاك، وإنما هو العدل والقسط بين الانحرافين.