الثقافة قَدَرُ المجتمع المتحضر، والقراءة أعظم وسائل الثقافة، والاحتفاء بمعرض الكتاب احتفاءٌ بمحفل من محافل الثقافة، يجد فيه المثقفون من مختلف الفنون قدرا من الاحتفاء والتقدير، وهو صورة من صور الوعي، هذا هو المأمول، ولعل الواقع مع تكرار مناسبات الثقافة أن يقاربه. وإذا كان التشريع الإسلامي لم يأتِ جملة واحدة ليقسر المجتمع على التحول كليا في زمن واحد مع ما فيه من درء المفاسد الكبرى وتحقيق المصالح العظمى، فكذلك من باب أولى تحويل المجتمع من مجتمع أمي القراءة إلى مجتمع مثقف قارئ، فتغيير المجتمع لا يأتي قسرا، والثقافة لا تُستنبت في غير أرضها، واستصلاح الأراضي يأتي أولا، والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خَبُثَ لا يخرج إلا نكِدا. وكما يأتي تحويل المجتمع من الأمية تدرجا على مراحل، فكذلك تطبيع المجتمع على ثقافة القراءة والاطلاع يأتي شيئا فشيئا. وأنسب ما يُبدأ به مشروع (القراءة للجميع), ما كان من الكتب أكثر تشويقا، وأسهل فهما, مما لا يجهد الفكر ولا يثقل على النفس؛ ككتب القصص والروايات والطرائف والغرائب؛ إذ هدف هذه المرحلة تعويد النفس على القراءة فحسب، في هذه المرحلة الأولى لا يعنينا ماذا يقرأ المبتدئ الجديدُ على عالم القراءة والكتب ما لم يكن معارضا للأصول الشريعة والقيم، دعْه يقرأ ما يستهوي ويشوّق, ولو لم تكن له ثمرته العلمية الثقافية، فالثمرة المقصودة هنا أن يتذوق القراءة، فليُمهَل حتى تصبحَ القراءة جزءا من حياته، وغذاءً من غذائه, ثم بعد ذلك تأتي مرحلةُ الترشيد والتوجيه. ومن الخطورة بمكان أن يُترك الناس مسترسلين في هذه المرحلة الأولية، فلا تتجاوز قراءاتهم حدود الكتب الغثة التجارية، فتتحول القراءة ذاتها إلى هدرٍ للأوقات وتسطيحٍ للثقافة، حيث يراوح القارئ مكانه لم يتجاوز مربعه الأول، وهو يظن أنه قد قطع في مضمار الثقافة شوطا ينافِس فيه الآخرين! وإذا كان الصدوف عن القراءة مشكلة تحكي أُميةً مذمومة، فإن القراءة غير الرشيدة هي الأخرى مشكلة تحتاج إلى علاج، فالعمر أقصر من أن يستوعب قراءة ما يستحق القراءة فكيف بغيره؟! ومن هنا يتعين توجيه القراءة وترشيدها، فالغث من الكتب يزاحم سمينها، ويكاد يطردها ويضطرها إلى أضيق الأرفف والمكتبات، وما كل من ألّفَ أجاد أيا كان فنه الذي يخوض. ليس معنى توجيه القراءة وترشيدها مصادرة الذوق الخاص والميل الشخصي، وليس مقتضاه إكراه القارئ المبتدئ على فنين أو ثلاثة لا تتسع للأذواق المختلفة، فالناس قد خُلقوا أشتاتا، وقد علم كل أناس مشربهم؛ إنما توجيه القراءة وترشيدها أن يُهدى القارئ إلى الجيد في فنه الذي يهوى، يختصر الأوقات إليه اختصارا دون أن يخوض مستنقع الرديء الضحل، مما لا يجني منه إلا تلويث ثيابه وعناء مخاضه. وبعد طول الممارسة ينضج الفكر وتصبح لدى القارئ حصانة ثقافية يميز بها الجيد من الرديء عند أول قراءة عاجلة قُبيل شراء الكتاب. كذلك في ترشيد القراءة ترشيدٌ للاستهلاك والإنفاق، ومنحٌ للكتب النفيسة مساحةً أكبر في المكتبة الشخصية. وليكن مرتاد المكتبات ومعارض الكتب على حذر أن ينجرف به التيار إلى موضة ثقافية عابرة تأسره وتخنقه في دائرة ضيقة يسهل فيها الإثارة, كما هو عالم الروايات، صحيح أن فيها الجيد المبدع المستحق للإشادة؛ لكن كم نسبته من السيء الذي يروج له بالطرق التجارية.