أهلا بكم .. نزهة هذا الأسبوع رقم 40. الحمدلله أنها استمرت كل هذه المدة حتى الآن، وكنتُ متردداً في البداية من نجاحها واستمرارها لطبيعتها الفكرية ولتعدد مواضيعها.. وأشكر ربي ثم أشكركم أنكم اثبتم عكس ما أظن.. حتى الآن! اليومُ الأول: لا عشت يوماً لا تعانقني به نبضاتُ قلبك إلى أمّي.. إلى كل أمّ: هاتي أقبّلُ في يديك أناملاً صنعَتْ كياني فأنا المدينُ لراحتيكِ، بما أصوغُ من المعاني وبما نشرت على الزمانِ من المثالثِ والمثاني وبكل ما أُلهِمْتُ أو أبدعتُ من صور البيانِ.. .. لا عشتُ يوماً لا تعانقني به نبضاتُ قلبكْ أو همتُ في دنيا خيالٍ لا يمتعني بقُربِكْ واللهِ .. لو شقَّتْ يمينُكِ مهجتي.. ما قلتُ حسبُكْ!
اليوم الثاني: تأمُّل.. أجرامُ ونجوم ومذنبات قبة الكون منذ أقدم وجودٍ حضري للإنسان كانت إلهاما روحيا عميقا بعيدا متعاليا وغامضا. كل ذاك الجمال السماوي الشاسع خلَب لبَّ الإنسان، وسلب خياله لأبعادٍ وراء الأبعاد. ذاك السقف المرصع بالنجوم والكواكب، والشمس والقمر جوهرتان معلقتان متحركتان ومتبادلتان. تلك القبة الزرقاء الواسعة كانت مسرح الأساطير للأرواح الجوّالة في أذهان حضاراتٍ المايا والأزتيك، تسبح عاليا بمجدٍ وألَقٍ بعيدا عن مادة الأرض.. بدأت أساطير الآلهة منذ حضارات عتيقة في الصين وجزر المحيطات إلى حضارات اليونان وما بين النهرين والفراعنة. كانت حضارات الهند الصينية ترى الشهبَ تقطع ملتهبة نسيجَ السماءِ فتعتبرها غضبا لآلهةٍ تسكن الشمس، وكان الصينيون يرون كوكبة نجوم على شكل دبٍّ عظيم يمثّلُ لديهم الطاقة التي وراء كل حركة الكون. ومصوّرو اللوحات القديمة من الكتب اليهودية والمسيحية تصور جنة عدن عبر بوابات تمر من فجوات في السماء لما تبرق الرعود. وخريطة السماوات الهندوسية الفلكية تحدد اشارات الزودياك، الأفق الغربي السماوي، ومنها لوحة شهيرة معروضة في متحف نيودلهي من القرن التاسع عشر تدل على الأزمنة الميمونة لتقديم الضحايا الدينية، ومواعيد الزواج، وليالي الإخصاب. وكان الآشوريون يغنون الشعر للنجوم ثم يحرقون عشبا يطلع دخانه لنجمة بذاتها وتكون دلالة على حظه، وإن لم يطلها الدخانُ تكون فأل سوء.. فينام حزينا طافيا على النهر. وكان العربُ المترحلون القدماء أكثر الجميع واقعية، فسخّروا مواقعَ النجوم والكواكب للجهات واستدلال طرق الصحراء المترامية، وفي التغزل في المعشوقات.. ثم وبوقتٍ قصيرٍ جدا جاء اينشتاين ونسبيته، ووكالة «ناسا» وبرامج غزو الفضاء، فخربوا الأجواءَ الخيالية الروحية.. فصارت قبةُ السماءِ ولونها وهما من الأوهام عاش عليها البشرُ عشرات آلاف السنين!
اليوم الثالث: السهرَوَرْديّون كثيرون.. أحدهم المقتول! تسأل «مُنية ايباري» من جدة- منذ قرأت لك هذه الجملة من زمان بجريدة «اليوم»: «ان الأسلوبَ الصوفي فيه جمال، ولكن حاذروا الوقوع في مزالقه..»، وأنا اقرأ عنها كثيرا وازداد علما في الكتابة وبُعداً عن المزالق. ولكني استغربت أن «السهرَوَرْدي» قُتل من أجل «كفره البواح»، ولما قرأتُ عنه وجدتُ فكره لا يصل لذلك؟» أشكرك يا مُنية على نباهة عقلك. أنا أكيدٌ من أن الذي تكلمت عنه حسب شرحك المسهب برسالتك هو العالم الصوفي العرفاني «السهروردي البغدادي» المعروف «بأبي حفص»، صح؟ وهذا فقيهٌ شافعي، وسُمي «السهروردي: كما كل سهروردي آخر، وهم كثيرون من ناحيةٍ في فارس اسمها سهرَوَرْد. ونشَّأَهُ أيضا عالمٌ عرفاني ولكنه فقيه حنفي وهو عمّه الشهير بالسهروردي عبدالقادر أبو النجيب، وهما من الصوفية المنقطعة، أي الذين يتعلمون العلم الفقهي من كتب علماء المذاهب ولكنهم يسلكون الطرقَ الصوفية في الانعزال مع الدعوة، وتبعهم كثيرون. وصاحبُنا الأول ستقعين عليه كثيرا بالكتب، ويُخلَط بينه وبين «السهروَردي المقتول» ولا تثريب ولا لوم في ذلك، لأنه الأبرز في العلم والدعوة بين السهروَرديين بل سُميت مدرسته بالسهروَردية، وله باعُ كبير في تربية المريدين السالكين. وإن أردت اللغة الجميلة التي تجعل الكلمات رنات زهرية، وتجاوبا في مظان روائع الجمال التعبيري فستجدينه باذخا ثريا في كتابه «جذب القلوب إلى مواصلة المحبوب.» ولا أنصح عموما لمن لا يكون ثابتا علما في متابعة الشأن المعرفي الصوفي. أما السهروردي المقتول فهو «أبو الفتح السهروردي» وقد زامن السهروردي ابا حفص على أن المقتول أصغر منه بعقد من الزمان. والسهروردي المقتول سُمّي مقتولا، لأن صلاح الدين الأيوبي نقل له بعض العلماء عنه ما سميته يا مُنية بِ«الكفر البواح»، فأمر ابنه الظاهر، سلطان حلب، بقتله.. وفعل. والسهروردي المقتول متتبع لحكمة الإشراق، والإشراقيون أهل مبالغة في الابتهال والتقرب الوجداني بما يخرج عن المعتاد بين العبدِ وربه. كما أن السهروردي المقتول قوي العقل حاد الذكاء بمستويات لم يصل لها أحدٌ في زمانه من الفلاسفة الكلاميين، فكان عقليا شديدا، وغارقا في ذات الوقت بالأذواق القلبية، وعاش في أصفهان، وكانت مدينة حوارات وعلم ومجالس ذكر، ثم درس في بغداد، ودرّس أيضا. بعد ذلك لأمر غمض علي، حسب متابعتي له، راح يناقش علماءَ حلب، وكانوا مشهورين بمواقفهم ضد صوفية الزوايا وغيرهم، وهذا ما جعل بعضهم ينقل لصلاح الدين عن أفكاره فكان مقتله. من أعظم كتبه، واحتفل بهما مستشرقو ألمانيا وهولندا بالذات ومنهم «غوته»، هما كتاباه الموسومان ب» هياكل النور» و«حكمة الإشراق».
اليوم الرابع: أتحدى.. ما اسم عاصمة تايلاند؟ لا، خطأ. أدري أنكم قلتوا بانكوك. بس مو على كيفي ولا كيفكم. بانكوك خطأ. لحظة لا تحتجّون.. خلونا نتفاهم. تُسمى عاصمة تايلاند وكما ينطقها التايلانديون حقا «جرينج تابي».طيب لماذا إذن نجد أن في النشرات السياحية حتى في تايلاند تسمى ببانكوك، ببساطة لأنها نقلت خطأ من غير التايلانديين وانتشرت فصاروا يترجمونها لهم, كما نترجم نحن دمشق فنقول للعالم «دمسكس»، وطرابلس «تربولي»، والقاهرة «كايرو»، والاسكندرية «الكزاندريا». ولكن لا، ما خلصنا بعد. اسم «جرينج تابي» ليس صحيحا ولا دقيقا مائة بالمائة. الاسم الحقيقي لبانكوك أو اذا كنتم دقيقين «جرينج تابي» هو اختصار لأطول اسم مدينة في كل الدنيا، بل أظن في كل تاريخ اسم المدن.. على الإطلاق. قرأت مرة في جريدة تايلاندية ناطقة بالانجليزية هذه الجملة، ثم صرت أجدها حتى في الكتب التي تتكلم عن بانكوك خارج أدبيات سيام (الاسم الرسمي المعتمد والقديم لتايلاند.. وقصته أيضا غريبة وجميلة ولكن المكان لا يسع الآن، مثل سرنديب وسيلان الاسمان القديمان لسريلانكا) المهم تلك الجملة تقول:»فقط الجهلة من الغرباء يسمون مدينتنا بانكوك.. لأنه لا يمكن لمتعلم ومثقف وذي عقل سليم أن لا يسميها باسمها «جرنج تابي». شيء آخر ماذا تعني كلمة «جرنج تابي»؟ وأنا كنت اعتقد أن الأمريكان أخذوا اسم «لوس أنجِليس» من الاسبانية وتعني مدينة الملائكة.. لا يا اخوان سلمكم الله. الله العالم أنه حتى الأسبان سارقينها من «جرنج تابي» التي تعني حرفيّا «مدينة الملائكة». إذن بانكوك مدينة الملائكة. وأنا أضمن لكم إن ذهبتم لِبانكوك لن تجدوا ملاكاً واحدا.. ولا حتى سِميّتها «لوس أنجِليس»! قبل أن أنسى، قلت ان اسمها أطول اسم مدينةٍ في العالم، خذوا اسمها الصحيح:»كرنج تابي مهانكهون آمورن راتاناكوسين ماهيناترا يودذايا مهاديلوك بهورب نارابات راجاذاني بوريوم أدومرا جنويس ماهاساتران آمرون بمران افالتارنساتيت ساكاتاتيا فيسانكورام براسيت» بس! نترجم لكم؟ طيب:»مدينة الملائكة، كاتمة أسرار الجواهر المقدسة، الأرض العظيمة التي لم تُقهر، المملكة الشهيرة، العاصمة الملكية السعيدة للأحجار الكريمة التسع التامة الحسن، مقر الملوك العظام والقصور المنيفة، الملجأ المقدّس، ومسارح الأرواح المستنسخة.» أرجوكم، لا أحد يزيد من عنده!
اليوم الخامس: من الشعر الأجنبي أترجمه بتصرف- شعر قصير جدا ومعبر لايميلي ديكسون: خلفي غارتْ الأبدية. «إيميلي ديكسون» شاعرة أمريكية من القرن التاسع عشر، من أغرب الشاعرات برأيي على الإطلاق في الشعر الغربي، كسرت كل قواعد اللغة والنحو وتعبير الكلمات المقولبة، صنعت لغة خاصة لها، أجواؤها لم نعهدها من قبل.. حبست نفسها عن كل العالم، ثم اتصلت بوعيها الداخلي بكل العالم. واخترت هذه الأبيات لتعبر عن نوعها الشعري، وتعبر عن فهمها للوجود. Behind Me — dips Eternity – Before Me — Immortality – Myself — the Term between – Death but the Drift of Eastern Gray, Dissolving into Dawn away, Before the West begin – خلفي- غارت الأبدية أمامي- الخلود أنا- الفترة بين الأبدية والخلود الموتُ وقد انحرف من المشرق الرمادي قبل أن يبدأ الغرب! ليغور بعيداً، بعيداً.. في غياهب الأعماق
اليوم السادس: قصة لقلبك مرّ رجلٌ اسكتلندي فقيرٌ في حرش، وسمع رجلاً يصرخُ: «النجدة.. أنقذوني!»، فذهب الفلاح الاسكتلندي صوب الصوت، ورأى شابا يغطس في طين متحرك حتى صدره، فمد له يديه وسحبه من الحمأة المميتة.. ومضى. في الغد وصل شابٌ قسيم بعربة مطهمة وبزيٍّ باذخ إلى كوخ الاسكتلندي الفقير وقال له: «أطلب ما تشاء. أنقذتَ حياتي، ثروتي تحت تصرفك.» فرد الرجلُ الفقيرُ الحكيم:»لا أريد شيئا من مالِك، إلا ان أردتَ أن تخدمني فعلا، فهذا ولدي الصغير، لا أملك مالا لتعليمه، فخذه وعلّمه». وبالفعل أخذ الشابُ ابن الاسكتلندي وأدخله أحسن المدارس حتى تخرج طبيبا في كلية الساينت ماري للطب بلندن. الطبيب هو من أصبح فيما بعد السير «الكسندر فلِمِنج» مكتشف دواء «البنسلين» الذي أنقذ الملايين من الالتهابات المميتة. بعد سنواتٍ عديدة أُحْضِر ابنُ ذاك الرجل الثري النبيل للمستشفى يعاني التهاباً رئويا مميتا، فعولج بدواء البنسلين وأُنقِذَتْ حياتُه. كان الرجلُ الأبُ هو اللورد «راندولف تشرشل»، أما ابنه فكان الرجل الشهير الذي أصبح أهم رئيسِ وزراء لبريطانيا العظمى.. «ونستون تشرشل»!
اليوم السابع: السعادة والفراشة إن السعيَ والجري وراء السعادة لا يؤتي أكُلُه دوما. أحبّ الفراشاتِ وأقرأ عنها كثيرا، وكتبت هنا منذ سنواتٍ عن قصّة حبي مع فراشةٍ، بعنوان:»حبيبتي..رفّة». انظر أنك تجري وراء فراشةٍ فلا تستطيع إمساكها، تهرب منك من زهرةٍ لأخرى، ثم تغفل عنها لبرهة.. فتجدها قد حطّت بين يديك. السعادةُ، كالفراشة!