يظل المكان بكل ما يحمل من تأويلات القاسم المشترك في كتابة المبدع والحاضر الغائب وإن غاب بتضاريسه التي يعرفها الجميع فهو مخزن الذاكرة والصندوق الذي من خلاله تمر جميع الحكايات. (اليوم) استطلعت آراء بعض الكتاب والمثقفين حول هذا الموضوع فكان هذا التحقيق... استحالة الهروب في البداية تحدث الناقد والكاتب ماهر رحيلي عن اهمية المكان واستحالة الهروب منه قائلا «الهروب من المكان أو الخروج عنه في العمل الابداعي قد يكون أشبه بالمحال فهناك امكنة كان لها تأثير كبير في حياة المبدع فنحن نتذكر نجيب محفوظ في زقاق المدق وخان الخليلي وحتى الحرافيش الثلاثية الضخمة التي كتبها نجيب محفوظ هي عمل أدبي غارق بالمكان فالمكان هو الوعاء الطبيعي للمثقف والمبدع حينما يتجرد منه يبدو العمل بلا روح أو نكهة تميزه عن غيره، لهذا من هنا تبرز عبقرية المكان وكيفية إيصالها للمتلقي في نص أدبي اختلطت فيه كيمياء الأديب مع تضاريس المكان لتبدع عملا أدبيا يكون حاضرا رغم تعاقب السنوات والأجيال ليبقى خالدا وحاضرا يخلد للمكان أروع ما فيه بصورة فنية تعكس ربما احاسيس اجيال تعاقبت على ذلك المكان». المكان الموازي أما القاص عبدالله سلمي فكان رأيه أن المكان صورة تختلف عن الصورة المعتادة حيث قال «نعم المكان له حضور وطبيعي أن يكون له حضور ولكن أي مكان هل هو المكان الصرف، بمعنى عين الأديب دائما لا ترى بالمكان ما يراه الانسان العادي وانما ترسم صورة نعم فيها من ملامح المكان الشيء الكثير ولكن ليس هو المكان كما تصوره الكاميرا الفوتوغرافية وانما هي صورة متخيلة لمكان ألفته وملامحه تبدو قريبة منك ولكنها في نفس الوقت تأخذ لزوايا قد لا ينظر له من زوار هذا المكان أو من اعتادوا هذا المكان، بمعنى آخر مكان الأديب محمل بصور المجاز التي تقدم قراءة قد لا تبدو هي القراءة المتفق عليها ولكنها زاوية ينظر من خلالها المثقف بعينيه هو وأدواته الخاصة التي تحفر في ذاكرة المكان تبحث عن تعريف آخر له». مرتكز الانطلاق الدكتور الروائي سلطان القحطاني تحدث عن تجربته مع المكان قائلا «المكان له الاثر الكبير في حياة الكاتب وركز عليه جميع النقاد والباحثين مثل فرويد وماركس والكثير من الذين قدموا دراسات عديدة حول الموضوع فالرواية تعتمد على ركنين أساسيين المكان والزمان، والزمان ربما يكون عائما أما المكان فهو الركيزة التي ينطلق منها الكاتب الروائي، بالنسبة لي المكان أحمله معي أينما ذهبت ففي الاحساء وبالتحديد في قريتي التي ولدت بها قرية الوزية وهي المكان الذي اكتشفته في حياتي منذ تشكل الوعي لدي، وحينما انتقلت إلى اليمن وعشت بها كتبت روايتي خطوات على جبال اليمن، وأستطيع أن اقول بأن المكان كان له دور كبير في هذا العمل، وفي الاحساء تأثرت بالمكان كثيرا وكتبت رواية سوق الحميدية وهو لمن لا يعرف سوق الحميدية هو سوق القيصرية حاليا وهذا السوق من آثار السلطان العثماني عبدالحميد الثاني، وتأثري بهذا المكان ليس لسوق الحميدية بذاته ولكن لتوظيف هذا المكان المهم في منطقة الخليج والجزيرة العربية وما كان يمثل هذا السوق بالنسبة للجيل الماضي والجيل الحاضر، أهمية المكان في ظني تتمثل في الخلاصة التي يمكن أن تتغير وتتبدل من خلالها الاحداث وهو يشكل لي وللناس الحاضن لذاكرة الاحداث والمتغيرات التي تمر بحياة البشر». المكان المثالي الشاعر عبدالله الهميلي تحدث عن الصورة المثالية للمكان فقال «المكان الذاكرة الطفولة: مفردات تحرض على المشاكسة، كنت في الأحساء اعيش في يوتوبيا المدينة الافتراضية وأحلم كما كان يحلم أفلاطون بمدينته الفاضلة وشاء القدر الجميل أن تكون هي الدمام مدينتي الافتراضية الأولى لك أن تتخيل عزلتك الكونية وأنت تعيشها في مكان افتراضي ما أقرب في طبيعته إلى الروح والصفاء الإنساني الأول حيث النخيل والأرياف تعانق بعضها بعضا كما كائناتها الخلابة.. لاشك أن المكان يعكس ظلاله على الكاتب كعامل جغرافي للنضوج مثلا الأحساء الجو الريفي والمحاط بالصحراء كما هو محاط بالينابيع له أن يعكس على أهلها كما الكاتب قسوة الهجير ودعة الينابيع. كذلك المدن البحرية كما الدمام حيث رطوبة المشاعر والمعاني. بين الصحراء والنخل والبحر تكون تجربتي ومراهقتي الكتابية قد نضجت بملامحها الطفولية القادمة من الذاكرة والمكان لتمتد إلى أفقها الأوسع نحو تجربة الترحال حيث المكان يعكس ملامحه الوجودية على الكاتب وكل ترحال هو تجربة بحد ذاته أشبه بأسفار الصوفي في الملكوت السماوي كل رحلة اشراقة في ذات الوجود وكل دهشة هي ذاكرة ومكان للطفولة من جديد، المكان هذا الثقب الورقي الذي يشع بأركان الرواية ويخلق لها متعة الوصال بين الكاتب وذاكرته والقارئ وحواسه. المكان تلك الثمرة التي أبتلعها لأستمر في الكتابة. أعطاني مكاني زمنا طويلا ونفسا أطول في الاستحضار وبلوغ الدفاتر بنفس هادئة. ارتسمت بشكل دقيق وحضرت كرافد لم أتوقع أن تحولني لسيل دفاق. لا بد للأمكنة أن تترك إلهامها البالغ بالنفس وإلا لن تكون أمكنة أو لن يكون لها منها سوى الاسم. حنين الحروف الروائية مريم الحسن قالت: ليس كل عمل يكون المكان حاضرا فيه، ففي بعض الاعمال تكون اللغة هي الجوهر وليس المكان وبعضها يكون المكان حاضرا بقوة وهو أساس السردية وأسرارها. ففي مجموعتي (آخر المطاف) كان جليا فيها الزمان والمكان حيث ان تأثيره أعطى ريشتي الوانا متعددة، وارتسمت الأماكن في متاهاتها وتراجيديتها ورمزيتها واحداثها وخباياها وقفلاتها بأشكال متعددة من أمكنة قديمة وحديثة، وأمكنة لا تزال فعالة وأمكنة تغيرت وانقرضت فلم يعد لها تأثير. أما رواياتي فكان المكان طاغيا عليها بشكل ملحوظ؛ لأن أي كاتب لابد أن يتعلق عمله بمكان ما من الارض ويرسم عمله صورة لبيئته ومجتمعه وعاداته وتقاليده، ولا بد من وصف لأجواء ذلك المكان الذي يختص به السرد من حيث عناصر الطبيعة في ذلك المكان من الحالات المعيشية من بؤس وفقر أو غنى واعتدال او بساطة كبساطة أهل القرى وتفكيرهم في رواية (الضياع) واختلاف الافكار وذبذبتها عند أبطالها في عشق المدن والتحضر والتقدم والاسواق والملاهي المتعددة أو عشق القرية بمزارعها ونخيلها وربيع جوها، والسمر وجلسات الشباب وانطلاقة ابداعاتهم من شعر وثقافات متعددة. أما رواية (وأشرقت الايام) فكان جليا فيها مع تسلسل الاحداث معتقدات أهل القرى وأفكارهم، فالقارئ الجيد يستطيع من خلال متابعة القراءة تحديد طبيعة المكان الذي أتحدث عنه ومعرفته من الملامح البيئية والتقاليد والعادات الاجتماعية التي تحدثت عنها في الرواية، لأن انتاجي الروائي صورة صادقة نبعت من مشاعري وإحساسي المتلبس بالمكان الذي عشت فيه طفولتي وترجمت حروفي ظروف وتفاصيل بيئتي بمائها وسمائها وطينها ووحلها ومزارعها وبيوتها وأفكار اهلها واعتقاداتهم وحتى تفاصيل ظروف الزواج الجماعي المتميزة به بلدتي صغته حروفا في كتابي، وهذه كلها أصابع تشير الى بلدي وقريتي وارضي وبيتي. ومن خلال روايتي (شرفة لامرأة واحدة) كان تصوير الامكنة والمدن التي زرتها وتأثرت بها وكان لها النصيب الأكبر في التصوير من حيث الزمان والمكان ومسمياته وأحداثه والأجواء التي تعايشت معها وتأثرت بها في زمن معين.. وتلك الافكار الصادقة التي تتميز بها شخصيات الرواية والوصف الدقيق للعوامل المعيشية والمكانية والزمنية.