في المقال الماضي قمنا بمقارنة الإنتاج الصناعي في الاقتصادات المتقدمة ذات الكثافة السكانية، وتبيّن أن كل تلك الدول بلا استثناء لديها قطاع صناعي ضخم، وكان معدل إنتاجهم الصناعي السنوي للفرد حوالي 20 ألف ريال، مقارنة بأقل من 5600 ريال في السعودية. وفي هذا المقال سأُسلّط الضوء على دول صغيرة ومتقدمة اقتصاديا، وبنفس الوقت عرف عنها أنها لا تعتمد على الصناعة، وهذه الدول هي سويسرا وسنغافورة. هناك انطباع سائد أن سويسرا التي لا يزيد عدد سكانها على 8 ملايين تعتمد في اقتصادها على الخدمات البنكية، وأن ذلك هو سبب ثرائها وتقدمها الاقتصادي، نفس الأمر ينطبق على سنغافورة التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين، ويعتقد كثيرون أن اقتصادها يعتمد على الخدمات اللوجستية وعلى الخدمات المالية والسياحة. كلا الانطباعيين يثبت خطؤهما بمجرد تفحّص الأرقام الصناعية لتلك الدولتين. من جديد تثبت الأرقام أنه لا يمكن بناء اقتصاد متقدم ومنتج من دون وجود قاعدة صناعية قوية، وأنه لا أساس لأغلب ما يروج بخصوص إمكانية النمو اقتصاديا بالاعتماد فقط على الخدمات أو غيرها من القطاعات الاقتصادية غير الصناعية. في سويسرا يتجاوز حجم الإنتاج الصناعي الإجمالي سنويا 350 مليار ريال، أما ناتج الفرد الصناعي السنوي فيَصِل لأكثر من 45 ألف ريال، مقارنة بأقل من 5600 ريال في السعودية. أما في سنغافورة فيصل إجمالي الإنتاج الصناعي سنويا لأكثر من 165 مليار ريال، وناتج الفرد الصناعي السنوي حوالي 32 ألف ريال سعودي. من جديد تثبت الأرقام أنه لا يمكن بناء اقتصادٍ متقدِّم ومنتج من دون وجود قاعدة صناعية قوية، وأنه لا أساس لأغلب ما يُروّج بخصوص إمكانية النمو اقتصاديا بالاعتماد فقط على الخدمات أو غيرها من القطاعات الاقتصادية غير الصناعية. لماذا لا يمكن بناء اقتصادٍ متقدم وقوي من دون صناعة؟ لأننا من خلال الصناعة يمكننا إنتاج سلعٍ قابلة للتداول والتصدير، وتلك السلع يمكن مقايضتها مع سلع أخرى يتم شراؤها من العالم، أغلب القطاعات غير الصناعية – بطبيعتها – لا ينتج عنها سلع قابلة للتداول. ولذلك فمهما كانت تلك القطاعات غير الصناعية كبيرة، فإنه لا يمكن الاستفادة منها لاستيراد سلع من بقية دول العالم. هذا لا يعني بالطبع أن القطاعات غير الصناعية غير مهمة، بل هي ضرورية وحيوية أيضا، بل أن القطاع الصناعي لن يكون قادرا على النمو والعمل بكفاءة من دون وجود قطاع خدمي يرفد نموه، ولكن يبقى الأساس أن رفاهية المواطن وقدرة الدول على المنافسة الاقتصادية العالمية يجب أن تبدأ من خلال تنمية قطاعها الصناعي وبقية القطاعات تنمو تباعا. [email protected]